في قلب الصحراء المشرقة، حيث تنبض القبيلة بروح الأصالة، رحل الزعيم نعمان بن جلوان تاركًا خلفه وصية غامضة وثلاثة صناديق لكلٍّ من أبنائه الثلاثة. لم يكن الإرث مالًا أو أرضًا، بل مفاتيح لمسار جديد سيختبر قلوبهم قبل عقولهم. ما السر الذي أخفاه الأب الحكيم في هذه الصناديق؟ وكيف تحوّل الخلاف إلى درس خالد في القيادة والوفاق؟ إنها حكاية عن الصراع، والحكمة، والوحدة التي تولد من رحم الخلاف.
رَحِيلُ الزَّعِيمِ وَصَوْتُ الْوَصِيَّةِ
فِي قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ تَحْتَ ظِلِّ الصَّحْرَاءِ الْمُشْرِقَةِ، كَانَ يَسْكُنُ زَعِيمُ الْقَبِيلَةِ، رَجُلٌ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْمَرَارَةِ، اسْمُهُ نُعْمَانُ بْنُ جِلْوَانَ.
كَانَ نُعْمَانُ مَشْهُورًا بِحِكْمَتِهِ وَشِدَّةِ حِزْمِهِ، وَعُرِفَ بِلُطْفِهِ وَرِعَايَتِهِ لِلْقَبِيلَةِ، فَقَدْ كَانَ أَبًا رَحِيمًا، وَأَبْنَاءُهُ الثَّلَاثَةُ يَحْتَرِمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ.
تَكَامَلَتْ سُنُونُ نُعْمَانَ، وَشَعَرَ بِدُنْيَاهُ تَقْلُبُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ أَبْنَاءَهُ:
رَاشِدُ، الأَكْبَرُ، فَارِسٌ جَرِئٌ، يَحْتَلُّ قَلْبَهُ شَغَفُ القُوَّةِ.غَالِبُ، الأَوْسَطُ، ذَكِيٌّ وَذُو مَكْرٍ، يَسْتَغِلُّ كَلَامَهُ لِلْمُنَافَسَةِ.
مَرْوَانُ، الأَصْغَرُ، هَادِئٌ وَرَصِينٌ، يَحْمِلُ فِي صَمْتِهِ عُمقَ الْفِكْرِ.
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُمْطِرِ، جَلَسُوا حَوْلَ مَضْجَعِ نُعْمَانَ، وَرَأَوْا عَلَى وَجْهِهِ بَشَارَةَ النِّهَايَةِ.
نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِصَوْتٍ مُتَغَيِّرٍ، قَلِيلِ النَّفَسِ، وَقَالَ:
يَا بَنِيَّ، قَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ إرْثًا غَالِيًا، لَيْسَ مَالًا وَفِضَّةً، وَلَا أَرْضًا تُقَاسُ... إِنَّهُ ثَلَاثَةُ صَنَادِيقَ، كُتِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ اسْمُهُ.
فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ مَا يُعْبِّرُ عَنْ نَصِيبِكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ...
وَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ، فَاذْهَبُوا إِلَى الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ فِي الْمَدِينَةِ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ سِرَّ تَوْزِيعِي.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، انْحَنَى رَاشِدٌ عَلَى يَدِ أَبِيهِ، وَمَسَحَ دُمُوعَهُ.
وَغَالِبُ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ طَبِيعَتِهِ الْمُتَغَايِرَةِ، شَعَرَ بِحُزْنٍ عَظِيمٍ.
وَمَرْوَانُ، الَّذِي لَمْ يُفْصِحْ عَنْ مَشَاعِرِهِ، أَخَذَ يَنْظُرُ إِلَى الصُّنَادِيقِ بِوَجْهٍ جَادٍ.
عَادَ الْهُدُوءُ إِلَى الْغُرْفَةِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ نُعْمَانَ تَدُورُ فِي أُذُنِهِمْ... كَأَنَّهَا تُنَادِيهِمْ لِمَسِيرَةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ.
تَسَلَّلَ اللَّيْلُ عَلَى الْقَرْيَةِ، وَبَقِيَتِ الْصُّنَادِيقُ تُحَفَّظُ فِي مَكَانٍ آمِنٍ.
تَسَاءَلَ كُلٌّ مِنَ الْأَبْنَاءِ:
مَا هُوَ مَا فِي هَذِهِ الصُّنَادِيقِ؟ وَمَا السِّرُّ الَّذِي خَبَّأَهُ أَبُونَا؟
وَمَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، رَسَخَ فِي أَفْكَارِهِمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ سَتَكُونُ بَابًا لِمُسْتَقْبَلٍ غَامِضٍ وَمُتَعَلِّقٍ بِقَدَرِ الْقَبِيلَةِ.
صَنَادِيقُ الْخِلَافِ وَشَرَارَةُ الْفِتْنَةِ
فِي الصَّبَاحِ الْمُشْرِقِ لِوَاقِعِ الْفِرَاقِ، اجْتَمَعَ الأَبْنَاءُ حَوْلَ ثَلَاثَةِ صَنَادِيقَ وَضَعَهَا أَبُوهُمْ فِي دِيوَانِ الْقَبِيلَةِ.
كَانَتِ الأَسْمَاءُ كُتِبَتْ عَلَى الْغِلَافِ بِخَطِّ نُعْمَانَ:
الصُّنْدُوقُ الأَوَّلُ عَلَيْهِ اسْمُ "رَاشِدٍ"، وَالثَّانِي عَلَيْهِ اسْمُ غَالِبٍ، وَالثَّالِثُ عَلَيْهِ اسْمُ مَرْوَانَ
بَدَأَ رَاشِدُ يَتَأَمَّلُ اسْمَهُ، وَقَالَ بِنَفْسٍ مَلِيئَةٍ بِالثِّقَةِ:
هَذَا حَقِّي، لِأَنِّي الْأَكْبَرُ، وَأَنَا الْأَجْدَرُ بِالزّعَامَةِ.
وَفَتَحَ غَالِبُ صُنْدُوقَهُ، وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ، وَقَالَ:
لَكِنَّ الْمَالَ يَسِيرُ فِي عَرَقِ الْجَبِينِ. أَنَا مَنْ يُدِيرُ أَمْوَالَ الْقَبِيلَةِ.
مَرَّ مَرْوَانُ بِهُدوءِ، وَهُوَ يَسْتَعِدُّ لِفَتْحِ صُنْدُوقِهِ، وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي أَيِّ كَلِمَةٍ.
عِنْدَمَا فَتَحَ رَاشِدُ صُنْدُوقَهُ، وَجَدَ عَبَاءَةً ثَقِيلَةً مَزَيَّنَةً بِالْحُرِيرِ، وَسَيْفًا قَدِيمًا مُلَفَّفًا بِقِطَعِ جِلْدٍ مُهَرَّمٍ، وَوَثِيقَةً مَخْتُومَةً كُتِبَ عَلَيْهَا:
زَعِيمُ الْقَبِيلَةِ الطُّوَيْلِحِيِّينَ.
تَأَمَّلَ رَاشِدُ الْمُخْتَوَى، وَشَعَرَ بِغَيْرَةٍ.
قَالَ: هَذِهِ عَبَاءَةُ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَلَكِنَّنِي أَحْتَاجُ لِلثَّرْوَةِ لِأُثْبِتَ أَنِّي أَسْتَحِقُّهَا.
فَتَحَ غَالِبُ صُنْدُوقَهُ فَوَجَدَ مَفَاتِيحَ الْمَخَازِنِ، وَسِجِلَّاتِ الْأَرَاضِي، وَقَوَائِمَ الْمَوَاشِي، وَمُخَطَّطَاتِ التِّجَارَةِ.
رَفَعَ غَالِبُ يَدَيْهِ فَوْقَ الْمَفَاتِيحِ وَقَالَ:
هَذِهِ ثَرْوَةُ الْقَبِيلَةِ. أَنَا الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْقُدْرَةِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ تُنْحَرِفَ دُونِي.
أَمَّا مَرْوَانُ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ، فَفَتَحَ دَفْتَرًا قَدِيمًا مَكْتُوبًا بِخَطِّ أَبِيهِ، وَعَلَيْهِ عُنْوَانٌ:
خُلاصَاتُ عُمْرِي وَوَصَايَا لِمَنْ يَفْهَمُ.
تَفَحَّصَ الْأَخْوَةُ مَا فِي الدَّفْتَرِ، فَكُنَّا كَتَبَاتٍ مِنْ حِكْمَةِ نُعْمَانَ وَتَجَارِبِهِ، وَتَحْذِيرَاتٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْقَبِيلَةِ.
وَلَكِنَّ رَاشِدَ وَغَالِبَ لَمْ يُرِيدَا تَقْبُلَ هَذَا الْوَرَقَ، وَبَدَأَ الْخِلَافُ يَتَصَاعَدُ، حَتَّى تَحَوَّلَ إِلَى صَرَاخٍ وَتَهَدُّدٍ.
وَفِي وَقْتٍ قَرِيبٍ، كَادَ الْخِلَافُ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَكَانَ إِلَى مَوْقِعِ قِتَالٍ.
تَدَخَّلَ شَيْخُ الْحُكَمَاءِ فِي الْقَبِيلَةِ، وَصَاحَ فِي وُسْطِ الْفَوْضَى:
اِسْتَمِعُوا! لَا تَنْسَوْا كَلِمَاتِ أَبِيكُمْ! إِنْ اخْتَلَفْتُمْ، فَاذْهَبُوا إِلَى الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ فِي الْمَدِينَةِ.
تَرَدَّدَ الأَخْوَةُ، وَتَنَازَعُوا بِالنَّظَرِ، ثُمَّ أَخَذُوا يَفَكِّرُونَ.
فِي نِهَايَةِ الْيَوْمِ، قَرَّرُوا أَنْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الْحِكْمَةِ، وَيَذْهَبُوا إِلَى الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ لِفَكِّ غُمُوضِ وَصِيَّةِ أَبِيهِمْ.
الرِّحْلَةُ إِلَى الْقَاضِي وَبَوَّابَةُ الْفَهْمِ
انْطَلَقَ الإِخْوَةُ رَاشِدُ، وَغَالِبُ، وَمَرْوَانُ فِي رِحْلَتِهِمْ مِنْ قَرْيَتِهِمْ النَّائِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ.
كانَتْ الرِّحْلَةُ شَاقَّةً، مُمْتَدَّةً عَلَى طُولِ الْصَّحْرَاءِ وَمُنْعَطَفَاتِ الْجِبَالِ. وَرَفَقَهُمْ مَعَ هَوَاءِ الْصَّبَاحِ طَرِيقٌ مَزْرُوقٌ مِنَ الأَمَلِ وَالْقَلَقِ.
خِلالَ سَفَرِهِمْ، كَانَتْ أَحَادِيثُهُمْ تَدُورُ حَوْلَ الصُّنَادِيقِ وَمَا فِيهَا، وَكَيْفَ سَيُحَلُّ الْغُرْبَةُ بَيْنَهُمْ.
رَاشِدُ، بَالرَّغْمِ مِنْ قُوَّتِهِ، كَانَ يَشْعُرُ بِتَرَدُّدٍ دَاخِلِيٍّ، وَكَانَ يُخْفِي مَخَاوِفَهُ تَحْتَ وَقَارِهِ.
غَالِبُ، بِلُغْزِ الْفِكْرِ وَمَكْرِهِ، كَانَ يَسْتَغِلُّ كُلَّ فُرْصَةٍ لِلْتَخْفِيفِ مِنْ شِدَّةِ التَّوَتُّرِ.
أَمَّا مَرْوَانُ، فَكَانَ هَادِئًا وَمُتَفَكِّرًا، يُرَاقِبُ الأَخْوَةَ بِعَيْنَيْهَا الْحَذِرَتَيْنِ، وَيُحَاوِلُ أَنْ يَفْهَمَ خُطَى القَاضِي الَّذِي سَيَقْبَلُهُمْ.
وَفِي الْمَدِينَةِ، بَعْدَ سَفَرٍ طَوِيلٍ، وَصَلُوا إِلَى بَيْتِ الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ، رَجُلٍ مَشْهُورٍ بِحِنْكَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي فَكِّ الأَلْغَازِ وَالْقَضَاءِ عَلَى النِّزَاعَاتِ.
اسْتَقْبَلَهُمْ القَاضِي بِرِحَابَةِ وَجَلَدٍ، وَاسْتَمَعَ إِلَى حِكَايَتِهِمْ بِصَبْرٍ وَاهْتِمَامٍ.
سَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ مَا وَجَدَ فِي الصُّنْدُوقِ، وَمَا يَرْجُوهُ مِنْهُ.
رَاشِدُ تَكَلَّمَ بِفَخْرٍ:
الصُّنْدُوقُ الَّذِي عَلَى اسْمِي، لَمْ يُرِدْهُ أَبِي مَالًا، بَلْ عَبَاءَةَ الْزِّعَامَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ.
غَالِبُ أَضَافَ:
وَالصُّنْدُوقُ الَّذِي عَلَى اسْمِي، كَانَ مَفَاتِيحَ الْمَخَازِنِ وَسِجِلَّاتِ الأَرَاضِي.
وَصَمَتَ مَرْوَانُ وَقَرَأَ دَفْتَرَ الْوَصَايَا وَالْحِكَمَةِ.
بَدَأَ القَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بِالتَّفْكِيرِ، وَبَدَأَ يَشْرَحُ بُطْئًا مَا يَحْمِلُهُ كُلُّ صُنْدُوقٍ مِنْ مَعْنًى، وَمَا رَغِبَ الْوَالِدُ أَنْ يُوَصِّلَهُ لِكُلِّ وَلَدٍ.
الْحِكْمَةُ الْمَدْفُونَةُ وَسِرُّ التَّوْزِيعِ
جَلَسَ الإِخْوَةُ عِنْدَ قَاعِدَةِ القَاضِي بَدْرِ الدِّينِ، وَعَيْنَاهُ تَتَلَاحَظَانِ بِنَفَسِ الحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ الْعَمِيقِ.
قَالَ القَاضِي بِصَوْتٍ رَصِينٍ وَهُدُوءٍ يَحْمِلُ مَزِيدًا مِنَ التَّأْمُلِ:
"يَا بَنِيَّ، لِكُلِّ صُنْدُوقٍ مِنْ هَذِهِ الصُّنَادِيقِ قِصَّةٌ تَرْوُونَهَا، وَرِسَالَةٌ تَحْمِلُهَا، وَحِكْمَةٌ وَرَاءَ كُلِّ خَيَارٍ.
نَظَرَ إِلَى رَاشِدٍ وَقَالَ:
"الصُّنْدُوقُ الَّذِي عَلَيْكَ، يَحْمِلُ عَبَاءَةَ الْقِيَادَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ.
فَأَنْتَ أَكْبَرُكُمْ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ رَجُلَ الْقَبِيلَةِ الَّذِي يَحْمِلُ ثِقْلَ الزَّعِيمِ، وَلَيْسَ فَقَطْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْعِصَا."
ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى غَالِبٍ وَقَالَ:
"أَنْتَ مَنْ عَلَيْكَ دِفَاعُ مَالِ الْقَبِيلَةِ وَمُحَافَظَتُهُ.
هَذِهِ الْمَفَاتِيحُ وَالسِّجِلَّاتُ تُمَثِّلُ الْأَرَاضِي وَالْمَوَاشِي، وَالْمَصَادِرَ الَّتِي تُسْتَغَلُّ لِتَحْقِيقِ رِزْقِ الْجَمِيعِ."
وَأَخِيرًا، نَظَرَ إِلَى مَرْوَانَ وَقَالَ:
"وَأَنْتَ أَصْغَرُكُمْ، وَالَّذِي عَلَيْكَ دَفْتَرُ الْحِكَمَةِ وَالتَّجَارِبِ.
فَأَنْتَ رَجُلُ الْفِكْرِ وَالْحِكْمَةِ، مَنْ يَحْمِلُ نِيرَانَ الْمَعْرِفَةِ وَالْتَّدَبُّرِ."
تَسَاءَلَ غَالِبُ:
"وَلَكِنْ، يَا سَيِّدِي الْقَاضِي، لِمَاذَا تَرَكْنَا أَبُونَا نُفَصِّلُ هَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ لِمَاذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا فِي حَيَاتِهِ؟"
أَجَابَ بَدْرُ الدِّينِ بِحِكْمَةٍ:
"لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا الْمُعَانَاةَ وَالاحْتِكَاكَ، وَلِكَيْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَتِيجَةَ تَجَارِبِكُمْ وَتَفَاهُمِكُمْ.
وَكَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)".
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، شَعَرَ الأَخْوَةُ بِوَصْلٍ جَدِيدٍ، وَبَدَأُوا يَرَوْنَ أَبَاهُمْ مِنْ زَاوِيَةٍ جَدِيدَةٍ.
وَفَهِمُوا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ الْمَادِّيِّ فَقَطْ، بَلْ لِتَرْسِيمِ مَسَارٍ جَدِيدٍ لِحَيَاةِ الْقَبِيلَةِ، وَلِتَرْكِ مِيرَاثٍ أَكْبَرَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
الْعَوْدَةُ إِلَى الْأَصْلِ وَبَدْءِ التَّغْيِيرِ
بَعْدَ أَنْ سَمِعَ الإِخْوَةُ كَلامَ الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ، وَقَعَتْ فِي أَفْكَارِهِمْ كَلِمَاتُهُ، وَشَعَرُوا بِوَزْنِ الْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ.
رَاشِدُ، الَّذِي كَانَ يَرَى أَنَّ الزّعامةَ تَعْنِي الْقُوَّةَ وَالسُّلْطَةَ، ابْتَدَأَ يُدْرِكُ أَنَّ الْقِيَادَةَ أَكْثَرُ مِنْ عِبَءِ الْعَبَاءةِ وَالسَّيْفِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ وَالرِّفْقَ هُمَا مَفَاتِيحُهَا.
غَالِبُ، الَّذِي كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْمَالَ هُوَ سَبِيلُ السَّيْطَرَةِ، بَدَأَ يَرَى أَنَّ حِفْظَ مَالِ الْقَبِيلَةِ وَرِزْقِهَا هُوَ أَمْرٌ جِدٌّ وَيَحْتَاجُ إِلَى عَدْلٍ وَحِكْمَةٍ.
أَمَّا مَرْوَانُ، فَبَدَأَ يَتَحَمَّلُ دَوْرَهُ كَحَامِلٍ لِلسِّرِّ وَالْحِكْمَةِ، وَكَانَ يُنَظِّمُ الدَّفْتَرَ وَيُشَارِكُ أَخَوَيْهِ فِي التَّخْطِيطِ لِمُسْتَقْبَلِ الْقَبِيلَةِ.
سَاوَى ذَلِكَ تَغْيِيرًا عَمِيقًا فِي نُفُوسِهِمْ، فَصَارُوا أَكْثَرَ تَفَاهُمًا وَتَعَاوُنًا.
تَرَاوَحَتْ أَحَادِيثُهُمْ بَيْنَ مَا قَرَأُوهُ فِي دَفْتَرِ الْحِكَمَةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَخْدِمَ مَا وَرِثَهُ لِخَيْرِ الْقَبِيلَةِ.
فِي نِهَايَةِ الْيَوْمِ، اجْتَمَعُوا لِمُخَاطَبَةِ شَعْبِ الْقَبِيلَةِ، وَقَالَ رَاشِدُ بِصَوْتٍ مَلِيءٍ بِالْعَزِيمَةِ:
"نَحْنُ الآنَ نَفْهَمُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ قَسْمَةَ أَمْوَالٍ فَقَطْ، بَلْ هِيَ تَجْسِيدٌ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ.
وَسَنَعْمَلُ جَمِيعًا لِتَقْوِيَةِ قَبِيلَتِنَا وَحِفْظِهَا، وَفِي ذَلِكَ، نَجْدُ الْوَحْدَةَ وَالسَّلَامَ."
وَتَحَوَّلَ الْخِتَامُ إِلَى بَدْءِ حَلْمٍ جَدِيدٍ، وَوَصَلَ الْوِعْدُ بِبُدْرٍ جَدِيدٍ يَضِيءُ لِطَرِيقِ الْقَبِيلَةِ.
الْعِبْرَةُ الْخِتَامِيَّةُ
بَعْدَ أَنْ قَضَى الإِخْوَةُ وَقْتًا مَعَ القَاضِي بَدْرِ الدِّينِ، وَفَهِمُوا مَغْزَى كُلِّ صُنْدُوقٍ، وَادْرَكُوا مَا كَانَ أَبُوهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُوَصِّلَهُ، جَاءَ الْوَقْتُ لِلرُّجُوعِ إِلَى الْقَرْيَةِ.
وَفِي طَرِيقِهِمْ، كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ تَتَحَوَّلُ بِنِسْبَةٍ كَبِيرَةٍ، بَعْدَ أَنْ تَعَلَّمُوا أَنَّ الْمِيرَاثَ لَيْسَ فَقَطْ أَمْوَالًا وَمَكَانَاتٍ، بَلْ حِكْمَةٌ وَتَفَاهُمٌ وَمَحَبَّةٌ.
عِنْدَ وُصُولِهِمْ، اجْتَمَعَ الْقَبِيلَةُ كُلُّهَا، وَوَقَفَ رَاشِدُ فِي وَسَطِ الْمَجْمَعِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ وَاضِحٍ وَرَصِينٍ:
"يَا أَهْلَ قَبِيلَتِنَا، تَعَلَّمْنَا مِنْ وَصِيَّةِ أَبِينَا نُعْمَانَ أَنَّ الْوَحْدَةَ وَالْحِكْمَةَ أَثْمَنُ مِنْ أَيِّ مَالٍ.
وَقَسْمَتُهُ لَمْ تَكُنْ لِلنِّزَاعِ، بَلْ لِتَرْسِيمِ مَسَارٍ نَحْنُ فِيهِ رِجَالٌ وَرِعَاةٌ لِشَعْبِنَا."
ثُمَّ دَعَا رَاشِدُ الأَخَوَةَ لِلْمُنَادَاةِ، فَوَقَفَ غَالِبُ وَمَرْوَانُ وَتَكَلَّمَا:
غَالِبُ:"تَعَلَّمْتُ أَنَّ حِفْظَ الْمَالِ وَالأَرَاضِي هُوَ أَمْرٌ يَسْتَحِقُّ الْوِقَايَةَ بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَلَا يَجِبُ أَنْ نَفْرِقَ بِسَبَبِهِ."
مَرْوَانُ:"وَأَنَا أَسْتَحِقُّ دَوْرِي فِي نَفْسِ الْحِكْمَةِ وَالتَّخْطِيطِ، لِأُسَاهِمَ فِي نُمُوِّ قَبِيلَتِنَا وَسَلاَمِهَا."
فِي نِهَايَةِ الْمَجْلِسِ، قَالَ القَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بِكَلِمَاتٍ تَحْمِلُ جَوْهَرَ الْحِكْمَةِ:
"إِنَّ الْحِكْمَةَ تُوجَدُ فِي قَلْبِ الْمُنَازَعَةِ، وَالْحِلْمُ هُوَ مِفْتَاحُ السَّلَامِ.
وَأُذَكِّرُكُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ).
وَانْتَشَرَ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي قَلْبِ الْقَبِيلَةِ، وَتَجَدَّدَتْ أَمَالُهَا وَوَحْدَتُهَا، وَسَارَ الإِخْوَةُ فِي طَرِيقِ الْحِكْمَةِ وَالْوَفَاقِ.
شُكْرًا لَكُمْ عَلَى قراءة ، وَأَلْقَاكُمْ فِي الْقِصَّةِ الْقَادِمَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ!
إِذَا أَعْجَبَتْكُمْ الْقِصَّةُ وَتُحِبُّونَ سَمَاعَها ومشاهدتها