ثلاث قضايا حيرت الكثيرين .. والقاضي نصير فك السر

يحكى انه في سالف العصر والاوان كان هناك قاض شهير يدعى نصير، اشتهر في ارجاء البلاد بفرط ذكائه ونفاذ بصيرته وحكمته البالغة التي اعادت الحقوق الى اصحابها، وردعت الظالمين عن غيرهم.

ولما ذاع صيته، تناقل الناس قصص احكامه العادلة، ومن ابرزها ثلاث قضايا حيرت الكثيرين، فكانت برهانا على فطنته.

ثلاث قضايا حيرت الكثيرين .. والقاضي نصير فك السر
ثلاث قضايا حيرت الكثيرين

القضية الاولى: جاران وخيانة الامانة.

كان في قرية صغيرة جاران يقيمان جنبا الى جنب، احدهما يدعى سالم، وكان رجلا طيب القلب سليم الصدر، يثق بالناس حتى لو خانهم الظن.

والاخر يدعى مازن، وكان ملكا للمكر والدهاء، يخفي في نفسه ما لا يظهره على لسانه. عاش سالم بجوار مازن وهو غافل عن خبث طويته.

وفي يوم من الايام نزلت بمازن شدة وضاقت به السبل، ولم يجد في داره ما يسد رمقه، فتذكر جاره الطيب سالما، وقرر ان يذهب اليه طالبا قرضا يعينه على ازمته.

فلما وصل الى بيته لم يجده، لكن زوجته اخبرته انه ذهب الى عمله منذ الفجر ولم يعد بعد، فقرر مازن ان يلحق به في مكان عمله.

وبينما هو في طريقه، اذ به يرى سالما قادما من اتجاه العمل، فاسرع اليه واوقفه وشرح له ضائقته، وطلب منه ان يقرضه الفي دينار.

لم يتردد سالم لحظة، ووافق على مساعدته، وكانت هناك شجرة ليمون باسقة قريبة منهم، فقال سالم لمازن:

"غدا بمشيئة الله ساحضر لك الفي دينار، وسانتظرك هنا تحت ظل هذه الليمونة."

وفي الصباح التالي، ذهب مازن الى الموعد، فوجد سالما ينتظره عند الليمونة، وقد جمع له المال فاعطاه اياه بكل ترحاب.

فقال مازن: "سارد اليك هذا المال بعد ثلاثة اشهر من اليوم."

ووافق سالم دون ان ياخذ عليه اي اقرار او وثيقة.

ولما انقضت الاشهر الثلاثة، ذهب سالم الى جاره ليطالبه بحقه، فانكر مازن انه اخذ منه اي مال، وادعى انه لا يعرف شيئا عن تلك القصة.

حزن سالم حزنا شديدا، وقال في نفسه:

"وصلنا إلى زمن يجازى فيه الإحسان بالجحود، والجميل بالغدر."

ولكنه تذكر القاضي نصير، وما يحكى عن حكمته وذكائه في فض المنازعات، فشكا إليه أمره.

استمع القاضي نصير إلى شكوى سالم، ثم أمر الحرس بإحضار مازن.

وحينما حضر، نظر إليه القاضي وقال:

"إن جارك يدعي أنه أقرضك ألفي دينار، فهل ما يقوله صحيح؟"

أنكر مازن بشدة، وقال: "يا سيدي القاضي، ما أخذت منه شيئا قط، وما حدث بيننا إلا اختلاق من عنده."

فالتفت القاضي نصير إلى سالم وسأله:

"هل لديك بينة تشهد لك؟ أو ورقة تثبت دينك؟"

فأجاب سالم: "كلا يا سيدي، لقد وثقته، ولم يخطر ببالي أن ينكر."

أحس القاضي بصدق سالم، ففكر قليلا ثم قال:

"يا سالم، اذهب إلى المكان الذي سلمته فيه المال، تحت شجرة الليمون تلك، وابق هناك قليلا حتى أرسل في طلبك."

ثم أمر القاضي خادمه أن يتبع سالما دون أن يراه أحد.

وبعد أن انصرف سالم، التفت القاضي إلى مازن قائلا:

"يا مازن، بينما ننتظر عودة جارك، أخبرني، هل تعتقد أنه قد وصل إلى الليمونة الآن؟"

فقال مازن دون وعي: "لا أظن، فالمسافة بين المجلس والليمونة بعيدة قليلا."

ابتسم القاضي نصير وقال:

"إذن، لقد وقعت في فخ نفسك يا مازن! كيف عرفت أن الموعد والمكان كانا عند الليمونة إن كنت لم تلتقه هناك؟!"

ارتبك مازن، وأطرق رأسه خجلا، فأمر القاضي بإرجاع المال إلى سالم ومعاقبة مازن على خيانته للأمانة.

القضية الثانية: اللؤلؤة المسروقة

في يوم من الأيام، دخلت إلى مجلس القاضي نصير امرأة في الأربعين من عمرها، ترتدي ثيابا فاخرة، وعلى وجهها آثار الحزن والاضطراب.

قالت وهي تبكي:

"يا سيدي القاضي، لقد سرقت مني لؤلؤة ثمينة لا تقدر بثمن، كانت هدية من أبي قبل وفاته، ولا أعلم من أخذها!"

فرفع القاضي رأسه إليها وسألها بهدوء:

"هل تشكين في أحد؟"

قالت: "نعم يا سيدي، إن في البيت جاريتين، إحداهما تدعى (هند)، والأخرى (سعاد)، ولا أدري أيتُهما أخذتها، لكني متيقنة أن السرقة من داخل البيت."

فأمر القاضي بإحضار الجاريتين فورا.

ولما دخلتا، كانتا ترتجفان من الخوف، فوقف القاضي أمامهما وقال بهدوء:

"أيتكما أخذت اللؤلؤة؟"

فنظرتا إلى الأرض صامتتين لا تجيبان.

فأمسك القاضي قنينة صغيرة من الزيت كانت على مكتبه، وقال للحرس:

"خذوا هذه القنينة، واملؤوها ماء طاهرا، ثم أعيدوها إلي."

ولما أعادوها، قال للجاريتين:

"هذه القنينة فيها ماء الصدق، من تشرب منه وهي بريئة، يبقى طعم الماء في فمها حلوا كالعسل، أما السارقة، فسيصير طعمه مرا كالعلقم."

ثم قدم القنينة للأولى، فشربت منها وهي ترتجف، فقال القاضي:

"كيف طعمه؟"

قالت: "عذب يا سيدي."

ثم أعطاها الثانية، فترددت قليلا ثم شربت.

نظر إليها القاضي وقال بابتسامة خفية:

"وكيف طعمه يا سعاد؟"

قالت وهي مترددة: "عذب كذلك يا مولاي."

فابتسم القاضي نصير وقال:

"حسنا، يمكنكما الذهاب الآن إلى غرفتكما، لكن قبل أن تخرجا، أريد منكما أن تنظفا أيديكما لأن هذه القنينة فيها سحر ماء لا يلمس بغير طهارة."

خرجت الجاريتان متعجبتين، وبعد لحظات قال القاضي لحارسه:

"اتبعْهما خلسة، وانظر من منهما ستغسل فمها أو يديها أولا بعد خروجها."

فما هي إلا دقائق قليلة حتى عادت الحارسة تقول:

"يا سيدي القاضي، إن الجارية (سعاد) أسرعت إلى البئر، وغسلت فمها مرارا!"

فابتسم القاضي وقال:

"لقد بان الصادق من الكاذب."

ثم أمر بإحضارها، فاعترفت بعد مواجهة قصيرة بأنها هي التي أخذت اللؤلؤة، وخبأتها تحت حجر في الحديقة.

فاستخرجت اللؤلؤة، وردها القاضي إلى صاحبتها، وقال لها:

"يا امرأة، المال يعوض، ولكن الثقة إذا فقدت لا تشترى بثمن."

وغادرت المرأة مجلس القاضي وهي تبكي من الفرح والدعاء له بطول العمر والعدل في الحكم.

القضية الثالثة: الوصية المختفية

وفي يوم آخر، جاء إلى القاضي نصير ثلاثة إخوة يتنازعون على ميراث أبيهم الراحل.

كان أكبرهم يدعى (رامي)، والأوسط (مالك)، والأصغر (فارس).

فقال الأكبر:"يا سيدي القاضي، لقد مات والدنا منذ أشهر، وترك لنا مزرعة كبيرة وبعض المال، ولكن وصيته ضاعت، وكل منا يدعي أن له النصيب الأكبر."

فنظر إليهم القاضي وقال:

"وهل كان أبوكم معروفا بالعدل في حياته؟"

قالوا جميعا: "نعم، كان لا يظلم أحدا."

فقال القاضي:

"إذن فوصيته لا بد أن تكون موجودة، لأن العادل لا يترك الدنيا قبل أن يقسم حق أبنائه."

ثم سألهم عن بيت أبيهم القديم، فأخبروه أنه ما زال كما هو بعد وفاته، لم يمس منه شيء.

فقال القاضي:

"سنذهب إلى هناك الآن، لأني أشعر أن أباكم ترك لكم رسالة لم تقرأوها بعد."

فخرجوا جميعا برفقة القاضي نصير إلى البيت، ودخلوا غرفة الأب الراحل، فوجدوا فيها مكتبة قديمة وأوراقا مبعثرة.

اقترب القاضي من الجدار، ولاحظ أن في أحد زواياه حجرا بارزا قليلا.

فأمر بإزالته، فإذا خلفه صندوق صغير خشبي، عليه نقش كتب عليه: "إلى أبنائي الثلاثة."

فتح القاضي الصندوق، فوجد فيه ورقة كتب فيها الأب وصيته بخط يده:

"أوصيكم بالعدل فيما بينكم، وأن يقسم المال بالتساوي، وأما المزرعة، فتكون لمن يحسن زراعتها ويخرج منها الخير للناس، فإن اختلفتم، فليحكم بينكم القاضي نصير، فإنه رجل عدل لا يميل عن الحق."

قرأ القاضي نصير الوصية بصوت جهور، فنزلت الدموع من أعين الإخوة الثلاثة، وشعروا بالخجل من نزاعهم.

فقال القاضي:

"لقد تكلم والدكم من قبره بالحق، فهل ترضون بما كتب؟"

قالوا جميعا بصوت واحد: "نرضى ونشكرك يا سيدي القاضي."

ابتسم القاضي نصير وقال وهو يغلق الصندوق:

"هكذا يعيد الله الحقوق لأصحابها، ليس بحد السيوف، ولكن بعدل العقول."

وانصرف الناس من مجلسه يومها وهم يلهجون بالدعاء له، وقد صار اسمه مضرب المثل في الحكمة والبصيرة والعدل بين الناس.

القصة الكاملة على قناتنا حكايات عدنان :

تعليقات