قِصَّتُنَا اليَوْمَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ، بَلْ هِيَ رِحْلَةُ قَلْبٍ صُلْبٍ، وَرُوحٍ لَا تَنْكَسِرُ.
إِنَّهَا قِصَّةُ النُّورِ فِي قَلْبِ الصَّحْرَاءِ، حَيْثُ يَنْتَصِرُ الحَقُّ مَهْمَا طَالَ الظُّلْمُ، وَحَيْثُ يُضِيءُ الصَّبْرُ دُرُوبَ الضَّيَاعِ.
قِصَّةٌ عَنْ ظُلْمٍ كَسَرَ قُلُوبًا، وَعَنْ حَقٍّ عَادَ بَعْدَ سِنِينَ طَوِيلَةٍ.
إِنَّهَا قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي طَارَدَ زَوْجَتَهُ وَابْنَهُ ظُلْمًا، وَبَعْدَ سَنَوَاتٍ عَادَ الابْنُ لِيَكْشِفَ الحَقِيقَةَ...!
بداية القصة
فِي صَبَاحٍ بَاكِرٍ مِنْ أَيَّامِ الْخَرِيفِ سَادَ الْهُدُوءُ فِي قَرْيَةِ السِّرَاجِ كَعَادَتِهَا، لَا يُسْمَعُ فِيهَا سِوَى صِيَاحِ الدِّيَكَةِ وَحَفِيفِ الْأَشْجَارِ الْيَابِسَةِ. خَرَجَ كَمَالٌ مِنْ بَيْتِهِ وَهُوَ يَلْبَسُ عَبَاءَتَهُ الْبُنِّيَّةَ الثَّقِيلَةَ، عَيْنَاهُ تَضِيقَانِ فِي وَجْهِ الشَّمْسِ، وَكَأَنَّهُ يَحْمِلُ هَمًّا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يُقَالَ.
مَرَّ بِجِوَارِهِ الشَّيْخُ مَحْمُودٌ صَاحِبُ الدُّكَّانِ، فَسَأَلَهُ بِنَبْرَةِ قَلَقٍ: أَكُلُّ شَيْءٍ بِخَيْرٍ يَا كَمَالُ؟
فَأَجَابَهُ كَمَالٌ بِجُمُودٍ: الْأُمُورُ بِخَيْرٍ، دَعْنِي وَشَأْنِي يَا مَحْمُودُ.
وَمَضَى بِخُطُوَاتٍ سَرِيعَةٍ دُونَ أَنْ يَلْتَفِتَ.
فِي الدَّاخِلِ كَانَتْ نَوَّارَةُ زَوْجَةُ كَمَالٍ تُرْضِعُ صَغِيرَهَا سَامِي، وَهِيَ تَهْمِسُ لَهُ بِكَلِمَاتٍ حَانِيَةٍ تُخْفِي بِهَا دَمْعًا مُتَجَمِّدًا فِي عَيْنَيْهَا.
لَمْ يَكُنِ الْمَنْزِلُ كَبِيرًا، لَكِنَّهُ كَانَ دَافِئًا بِالْحُبِّ، حَتَّى دَخَلَ كَمَالٌ... دَخَلَ كَمَنْ يَقْتَحِمُ سَاحَةَ مَعْرَكَةٍ، عَيْنَاهُ تَتَقَلَّبَانِ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْخُذْلَانِ.
– مَنْ كَانَ هُنَا الْبَارِحَةَ؟
سَأَلَهَا فَجْأَةً بِصَوْتٍ لَا يُشْبِهُهُ.
أَجَابَتْهُ نَوَّارَةُ: مَاذَا؟! لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ، كُنْتُ مَعَ سَامِي طُولَ اللَّيْلِ.
اقْتَرَبَ مِنْهَا بِعَصَبِيَّةٍ وَأَعَادَ السُّؤَالَ: لَا تَكْذِبِي، لَقَدْ رَأَيْتُ ظِلًّا يَخْرُجُ مِنَ النَّافِذَةِ.
أَرَادَتْ أَنْ تُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهَا، أَنْ تَصْرُخَ، أَنْ تَبْكِي، لَكِنَّ الصَّدْمَةَ كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ لِسَانِهَا.
قَالَتْ وَهِيَ تُحَاوِلُ النُّهُوضَ: كَمَالُ، بِاللَّهِ عَلَيْكَ، أَتَتَّهِمُنِي فِي شَرَفِي؟!
لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ. لَقَدْ أَقْسَمَ أَمَامَ نَفْسِهِ أَلَّا يَعِيشَ مَعَ امْرَأَةٍ يَخُونُهَا ظَنُّهُ.
فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمْسَكَ بِابْنِهِ الرَّضِيعِ، وَوَضَعَهُ فِي حِضْنِهَا، قَائِلًا: اخْرُجِي مِنْ بَيْتِي الْآنَ!
كَانَتْ خُطُوَاتُهَا الْمُتَعَثِّرَةُ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ كَأَنَّهَا تَسِيرُ فَوْقَ جَمْرٍ. لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ فِي الْقَرْيَةِ لِمَاذَا فَعَلَ كَمَالٌ مَا فَعَلَ، لَكِنَّ الْأَلْسِنَةَ بَدَأَتْ بِالْهَمْسِ، وَالْعُيُونُ صَارَتْ تُرَاقِبُ.وَفِي قَلْبِ نَوَّارَةَ وُلِدَ وَجَعٌ عَمِيقٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ بَعْدُ. خَرَجَتْ نَوَّارَةُ مِنَ الْبَيْتِ، تَحْمِلُ سَامِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا، لَمْ تَلْتَفِتْ خَلْفَهَا، لَمْ تَبْكِ عِنْدَ الْبَابِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِفُ مِنَ الدَّاخِلِ.
السَّمَاءُ غَائِمَةٌ، وَالرِّيحُ تَلْسَعُ وَجْهَهَا بِبُرُودَتِهَا، كَأَنَّهَا تُوَاسِيهَا بِصَمْتٍ قَاسٍ.
مَشَتْ بَيْنَ الْأَزِقَّةِ التُّرَابِيَّةِ، وَهِيَ تَحْضُنُ ابْنَهَا، تَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ تَلْجَأُ إِلَيْهِ، عَنْ قَلْبٍ لَا يُشَكِّكُ، عَنْ جِدَارٍ يُسْنِدُهَا.
وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ الْقَرْيَةِ، كَانَتْ مَرْوَةُ، الْأَرْمَلَةُ الصَّامِتَةُ، تَمْلَأُ جَرَّتَهَا مِنَ الْبِئْرِ، فَلَمَّا رَأَتْ نَوَّارَةَ قَادِمَةً تَوَقَّفَتْ.
قَالَتْ: مَا بِكِ؟! لِمَ أَنْتِ خَارِجَةٌ مِنَ الدَّارِ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟! وَأَيْنَ كَمَالُ؟
نَظَرَتْ نَوَّارَةُ إِلَيْهَا بِنَظْرَةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: طُرِدْتُ يَا مَرْوَةُ...
كَادَتِ الْجَرَّةُ تَسْقُطُ مِنْ يَدِ مَرْوَةَ! هَرَعَتْ إِلَيْهَا وَأَمْسَكَتْهَا مِنْ كَتِفِهَا: تُطْرَدِينَ؟!
– لِمَاذَا؟! لَا تَسْأَلِينِي، الْآنَ لَا أَمْلِكُ جَوَابًا... فَقَطْ دُلِّيْنِي عَلَى مَكَانٍ أَأْوِي إِلَيْهِ.
لَمْ تَتَرَدَّدْ مَرْوَةُ، أَمْسَكَتْ بِيَدِهَا، وَسَارَتْ بِهَا نَحْوَ بَيْتِهَا الْمُتَوَاضِعِ فِي طَرَفِ الْوَادِي، حَيْثُ تَعِيشُ وَحْدَهَا مُنْذُ وَفَاةِ زَوْجِهَا.
فِي الدَّاخِلِ، وَضَعَتْ نَوَّارَةُ سَامِي عَلَى وِسَادَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِالْقَشِّ، ثُمَّ جَلَسَتْ، لَا تَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ، فَقَطْ تَهْمِسُ: أُقْسِمُ إِنَّهُ ظِلٌّ لَا أَعْرِفُهُ... ظِلٌّ لَمْ يَكُنْ لِي.
فِي ذَاتِ الْوَقْتِ، كَانَ كَمَالُ يَجْلِسُ عِنْدَ مَدْخَلِ بَيْتِهِ، يُتَأَمَّلُ الْأَرْضَ، لَمْ يَشْعُرْ بِالرَّاحَةِ، وَلَا حَتَّى بِالِانْتِصَارِ، بَلْ شَيْءٌ يُشْبِهُ النَّدَمَ... لَكِنَّهُ خَنَقَهُ بِيَدِهِ، وَأَقْسَمَ أَلَّا يَلِينَ.
ظَهَرَ رَجُلٌ مِنْ بَعِيدٍ، نَحِيلٌ، يَرْتَدِي عَبَاءَةً قَدِيمَةً، اقْتَرَبَ:
– السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا كَمَالُ، سَمِعْتُ مَا حَدَثَ.
رَفَعَ كَمَالٌ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً: وَمَنْ أَنْتَ؟
– أَنَا صَالِحٌ، الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَ ظِلَّهُ الْبَارِحَةَ.
انْتَفَضَ كَمَالٌ وَاقِفًا، قَبَضَ عَلَى كَتِفِ صَالِحٍ بِقُوَّةٍ: مَاذَا تَقُولُ؟! أَتَعْتَرِفُ؟!
قَالَ الرَّجُلُ بِهُدُوءٍ مُرِيبٍ: نَعَمْ، أَعْتَرِفُ، لَكِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَظُنُّ...
– مَا حَقِيقَةُ هَذَا الرَّجُلِ؟ وَهَلْ كَانَ كَمَالٌ حَقًّا يَرَى مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ؟ وَهَلْ نَوَّارَةُ مَظْلُومَةٌ؟!
حَدَّقَ كَمَالٌ فِي صَالِحٍ طَوِيلًا، وَكَأَنَّهُ يَرَاهُ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى: تَتَجَرَّأُ وَتَأْتِي لِتَقُولَ إِنَّكَ دَخَلْتَ مَنْزِلِي؟
– لَمْ أَدْخُلْ مَنْزِلَكَ، لَكِنَّنِي كُنْتُ أَمُرُّ مِنْ خَلْفِ بَيْتِكَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَرَأَيْتُ شَيْئًا تَحَرَّكَ عِنْدَ النَّافِذَةِ، وَرُبَّمَا كُنْتُ أَنَا السَّبَبَ فِي الْوَهْمِ الَّذِي رَأَيْتَهُ.
– وَهَلْ يُطْرَدُ أَهْلُ الْبَيْتِ بِالْوَهْمِ يَا رَجُلُ؟!
أَطْرَقَ صَالِحٌ رَأْسَهُ: أَخْطَأْتَ، وَغَضَبُكَ أَعْمَى عَيْنَيْكَ... وَمَنْ خَسِرَ امْرَأَتَهُ الطَّاهِرَةَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْحَسْرَةَ.
ثُمَّ ابْتَعَدَ، وَتَرَكَ كَمَالًا وَسْطَ عَاصِفَةٍ مِنَ الشُّكُوكِ تَنْهَشُ صَدْرَهُ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، خَرَجَتْ نَوَّارَةُ لِتَجْمَعَ بَعْضَ الْحَطَبِ مِنْ أَطْرَافِ الْوَادِي، وَكَانَ سَامِي مَلْفُوفًا فِي قِطْعَةِ قُمَاشٍ خَشِنَةٍ عَلَى ظَهْرِهَا، وَمَرْوَةُ تَنْظُرُ إِلَيْهَا مِنْ بَعِيدٍ بِحَسْرَةٍ.
عِنْدَ الْمُنْحَدَرِ، وَبَيْنَ الْأَشْجَارِ الْمُتَشَابِكَةِ، لَاحَظَتْ نَوَّارَةُ خَيَالًا يَتَرَاءَى خَلْفَ جِذْعٍ كَبِيرٍ.
تَوَقَّفَتْ، وَتَرَاجَعَتْ خُطْوَةً، ثُمَّ قَالَتْ بِثَبَاتٍ: مَنْ هُنَاكَ؟
خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ بِبُطْءٍ، عَبَاءَتُهَا دَاكِنَةٌ، وَوَجْهُهَا مَغْطًّى نِصْفُهُ، لَكِنَّ عَيْنَيْهَا نَتَأَتْ مَعَانِيَهُمَا كَسُمٍّ فِي كَأْسِ مَاءٍ.
– أَلَا تَذْكُرِينَنِي يَا نَوَّارَةُ؟
تَمَعَّنَتْ نَوَّارَةُ فِي مَلَامِحِهَا، ثُمَّ قَالَتْ بِتَرَدُّدٍ: نَعِيمَةُ؟! ابْنَةُ عَمِّي؟
ابْتَسَمَتِ الْمَرْأَةُ ابْتِسَامَةً بَاهِتَةً، وَقَالَتْ: نَعَمْ... كُنْتُ أُرَاقِبُكِ مُنْذُ زَمَنٍ، وَرَأَيْتُ كَيْفَ كُنْتِ تَتَدَلَّلِينَ عَلَى كَمَالٍ، وَكَيْفَ كُنْتِ تَعِيشِينَ مَا لَمْ أَعِشْهُ أَنَا!
ارْتَبَكَتْ نَوَّارَةُ، وَقَالَتْ بِحَذَرٍ: وَمَاذَا فِي ذَلِكَ؟! رِزْقِي وَهَبَهُ اللَّهُ لِي، كَمَا رَزَقَكِ.
قَالَتْ نَعِيمَةُ وَهِيَ تَقْتَرِبُ مِنْهَا: بَلْ أَنْتِ سَرَقْتِ مَا كَانَ لِي... كَمَالٌ كَانَ لِي قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أُمُّهُ وَتُقْنِعَهُ بِكِ.
هُنَا انْجَلَى مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ نَوَّارَةُ... الْمُؤَامَرَةُ لَمْ تَكُنْ صُدْفَةً.
ضَحِكَتْ نَعِيمَةُ بِمَرَارَةٍ، وَقَالَتْ: لَا تَلُومِينِي، إِنَّمَا أَخَذْتُ حَقِّي بِيَدِي...
ثُمَّ هَمَسَتْ قَبْلَ أَنْ تَخْتَفِيَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ: الظِّلُّ الَّذِي رَآهُ كَمَالٌ... كَانَ لِي فِيهِ يَدٌ، وَلَكِنَّهُ... لَنْ يَعْلَمَ!
تَجَمَّدَتْ نَوَّارَةُ فِي مَكَانِهَا، تَنْظُرُ فِي الْفَرَاغِ، وَالْهَوَاءُ يَدُورُ حَوْلَهَا، كَأَنَّهُ يُؤَكِّدُ لَهَا أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ... لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
حَضَنَتْ سَامِي، وَدَمْعَتَانِ سَاخِنَتَانِ انْسَابَتَا عَلَى خَدِّهَا: لِمَاذَا يَا كَمَالُ... لَمْ تَسْمَعْنِي؟!
وَفِي اللَّيْلِ، كَانَ كَمَالُ يَسِيرُ فِي أَزِقَّةِ الْقَرْيَةِ وَحْدَهُ، وَصَوْتُ صَالِحٍ يَتَرَدَّدُ فِي أُذُنَيْهِ: "مَنْ خَسِرَ امْرَأَتَهُ الطَّاهِرَةَ، لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْحَسْرَةَ..."
تَوَقَّفَ أَمَامَ بَيْتِ مَرْوَةَ، رَفَعَ يَدَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَطْرُقِ الْبَابَ... خَافَ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَغْلَقَتْ قَلْبَهَا كَمَا أَغْلَقَ هُوَ ذبصيرته عَنِ الْحَقِّ.
وَفِي الدَّاخِلِ، كَانَتْ نَوَّارَةُ تُغَطِّي سَامِي بِلُطْفٍ، ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَهَمَسَتْ: "اللَّهُمَّ أَرِنِي عَدْلَكَ فِيمَنْ ظَلَمَنِي...
عَادَتْ نَوَّارَةُ تَحْمِلُ الْحَطَبَ وَصَمْتًا يُثْقِلُ رُوحَهَا. كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَصْرُخَ، أَنْ تَبُوحَ، لَكِنْ فِي الْقَرْيَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ، وَإِنْ سَمِعَ، فَلَنْ يُصَدِّقَ.
فِي الْمَسَاءِ، عَادَ كَمَالٌ إِلَى الْبَيْتِ كَعَادَتِهِ، لَكِنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَعُدْ كَمَا كَانَ.
السُّكُونُ فِيهِ يُؤْلِمُهُ، لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِصَوْتِ نَوَّارَةَ، وَلَا لِرَائِحَةِ الْحَطَبِ، وَلَا حَتَّى لِضَحِكَةِ سَامِي.
نَظَرَ إِلَى السَّرِيرِ الْخَالِي، وَجَلَسَ عَلَى طَرَفِهِ كَمَنْ فَقَدَ شَيْئًا لَا يُعَوَّضُ.
أَكُنْتُ ظَالِمًا؟ قَالَهَا فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّ الْكِبْرِيَاءَ أَخْرَسَهُ.
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، ذَهَبَ إِلَى السُّوقِ لِيَشْتَرِيَ بَعْضَ الْحَاجِيَّاتِ، فَوَقَفَ أَمَامَهُ رَجُلٌ كَهْلٌ يُدْعَى صَالِحٌ، وَقَالَ لَهُ:
– سَمِعْتُ يَا كَمَالُ أَنَّكَ طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ؟
أَجَابَهُ بِجُمُودٍ: نَعَمْ.
قَالَ صَالِحٌ: إِنَّهَا بَرِيئَةٌ.
– مَنْ قَالَ هَذَا؟
– الظِّلُّ الَّذِي رَأَيْتَهُ... كَانَ ظِلِّي.
هُنَا رَفَعَ كَمَالٌ رَأْسَهُ فِي ذُهُولٍ، وَتَجَمَّدَ فِي مَكَانِهِ، حَدَّقَ فِي صَالِحٍ طَوِيلًا، فَاغِرَ الْفَمِ، لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ مَا يَسْمَعُ:– مَاذَا قُلْتَ؟
– أُعِيدُهَا عَلَيْكَ: نَعَمْ، أَنَا مَنْ كَانَ خَلْفَ نَافِذَتِكَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ دَابَّتِي الْهَارِبَةِ، فَمَرَرْتُ قُرْبَ دَارِكَ، وَرَأَيْتُ مِنَ النَّافِذَةِ ضَوْءًا خَافِتًا، فَانْحَنَيْتُ لِأَتَأَكَّدَ، وَلَمَّا اقْتَرَبْتُ، رُبَّمَا رَأَيْتَ ظِلِّي.
كَانَ السَّقْفُ قَدْ سَقَطَ عَلَى رَأْسِ كَمَالٍ. هَتَفَ بِعَصَبِيَّةٍ:
– لِمَاذَا لَمْ تَتَكَلَّمْ مِنْ قَبْلُ؟
أَجَابَهُ صَالِحٌ بِمَرَارَةٍ: وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى تُصْغِي؟! كُنْتَ كَالثَّوْرِ الْهَائِجِ، لَا تَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَ ظُنُونِكَ!
ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَضَى، وَكَمَالٌ لَا يَزَالُ وَاقِفًا، يَتَحَسَّسُ كَلِمَاتِهِ كَأَنَّهَا طَعَنَاتٌ خَفِيَّةٌ.
عَادَ إِلَى الْبَيْتِ، قَلْبُهُ يَرْتَجِفُ، وَحِينَ دَخَلَ، سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ هَوْلِ مَا يَعْتَصِرُهُ مِنْ أَلَمٍ:
– نَوَّارَةُ بَرِيئَةٌ... بَرِيئَةٌ... وَأَنَا مَنْ ظَلَمَهَا!
وَفِي طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْقَرْيَةِ، كَانَتْ نَوَّارَةُ تُقَلِّبُ خُبْزَ التَّنُّورِ عَلَى الْجَمْرِ، وَسَامِي يَلْهُو بِقُرْبِهَا، وَمَرْوَةُ كَانَتْ تُرَاقِبُهَا، ثُمَّ قَالَتْ:
– أَمَا زِلْتِ تَأْمُلِينَ أَنْ يَعُودَ؟
قَالَتْ نَوَّارَةُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: لَا أَأْمُلُ عَوْدَتَهُ، بَلْ عَوْدَةَ كَرَامَتِي.
وَبَيْنَمَا الْجَمِيعُ فِي الْقَرْيَةِ يُتَابِعُونَ الْأَخْبَارَ، دَخَلَتِ امْرَأَةٌ عَلَى مَرْوَةَ، تُدْعَى هُدَى، وَهِيَ زَوْجَةُ رَاعِي الْمَاشِيَةِ، وَقَالَتْ هَامِسَةً:
– سَمِعْتُ صَالِحًا الْيَوْمَ فِي السُّوقِ، اعْتَرَفَ... عَرَفَ أَنَّ ظِلَّهُ هُوَ مَنْ رَآهُ كَمَالٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
ارْتَفَعَ حَاجِبَا نَوَّارَةَ، وَشَعَرَتْ بِجَسَدِهَا يَرْتَجِفُ:
– قَالَ هَذَا عَلَنًا؟!
– نَعَمْ، وَالنَّاسُ بَدَأُوا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ بَرَاءَتِكِ.
فِي الْمَسَاءِ، طَرَقَ صَالِحٌ بَابَ الشَّيْخِ مَحْمُودٍ مِنْ جَدِيدٍ، هَذِهِ الْمَرَّةَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُتَرَدِّدٍ.
فَتَحَ الشَّيْخُ الْبَابَ، فَرَآهُ مُنْكَسِرًا، فَفَهِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ:
– تُرِيدُ أَنْ تُرْجِعَ نَوَّارَةَ؟
هَزَّ كَمَالٌ رَأْسَهُ، وَقَالَ بِنَبْرَةٍ مَكْسُورَةٍ:
– أُرِيدُ أَنْ أَنْحَنِيَ تَحْتَ قَدَمَيْهَا وَأَبْكِي... لَقَدْ كَسَرْتُ قَلْبًا طَاهِرًا.
أَجَابَهُ الشَّيْخُ بَعْدَ صَمْتٍ:
– إِنْ كَانَتْ قَدْ سَامَحَتْكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ، لَكِنَّ الْقُلُوبَ لَا تُرَمَّمُ بِسُهُولَةٍ.
وَفِي الطَّرِيقِ إِلَى بَيْتِ مَرْوَةَ، حَيْثُ تُقِيمُ نَوَّارَةُ، وَقَفَ كَمَالٌ أَمَامَ الْبَابِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ لِيَطْرُقَ، لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ، وَالدُّمُوعُ فِي عَيْنَيْهِ، وَقَالَ لِنَفْسِهِ:
– أَسْتَحِقُّ أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجْهِهَا؟!
رَحَلَ دُونَ أَنْ يَطْرُقَ الْبَابَ، يَجُرُّ خَلْفَهُ خَيْبَتَهُ وَنَدَمَهُ...
لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ عَيْنًا كَانَتْ تُرَاقِبُهُ مِنْ خَلْفِ النَّافِذَةِ، مِنْ خَلْفِ سِتَارَةٍ خَفِيفَةٍ...
كَانَتْ نَوَّارَةُ تُرَاقِبُ كَمَالًا وَهُوَ يَتَرَدَّدُ أَمَامَ الْبَابِ، يَمُدُّ يَدَهُ، ثُمَّ يَسْحَبُهَا، يَقِفُ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ، ثُمَّ يَهْرُبُ.
رَأَتْهُ يَدْمَعُ... رَأَتْهُ يَرْحَلُ بِخُطًى مُثْقَلَةٍ.
أَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا، وَشَهَقَتْ شَهْقَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ قَالَتْ:
– إِنَّهُ يَتَأَلَّمُ... كَمَا تَأَلَّمْتُ...
لَكِنَّهُ أَتَى بَعْدَ أَنْ تَغَيَّرَتِ الْأَشْيَاءُ...
دَخَلَتْ مَرْوَةُ، وَقَالَتْ بِرِقَّةٍ:
– رَأَيْتِهِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
أَوْمَأَتْ نَوَّارَةُ بِرَأْسِهَا، وَقَالَتْ:
– نَعَمْ... وَلَكِنْ شَيْئًا دَاخِلِي... لَمْ يَسْمَحْ لِي أَنْ أَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ.
فِي بَيْتِ كَمَالٍ، كَانَتِ الْجُدْرَانُ تَئِنُّ مِنْ صَمْتِهِ.
مُنْذُ طَرَدَ نَوَّارَةَ، وَهُوَ يَعِيشُ فِي ظِلَالِ الشَّكِّ وَالْمَرَارَةِ، وَالْآنَ يَعِيشُ فِي ظِلَالِ النَّدَمِ وَالْخَوْفِ مِنَ الرَّفْضِ.
جَلَسَ قُرْبَ السَّرِيرِ الَّذِي نَامَ عَلَيْهِ مَعَ نَوَّارَةَ سَنَوَاتٍ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ تَحْتَ الْوِسَادَةِ، وَأَخْرَجَ عِقْدًا صَغِيرًا كَانَتْ نَوَّارَةُ قَدْ أَهْدَتْهُ لَهُ فِي أَوَّلِ عَامٍ لِلزَّوَاجِ.
ضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ وَهَمَسَ: غَالِيَةٌ أَنْتِ... كَيْفَ أَضَعْتُكِ؟!
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، جَاءَ الشَّيْخُ مَحْمُودٌ إِلَى نَوَّارَةَ، وَكَانَ يَحْمِلُ بِيَدِهِ كِتَابًا صَغِيرًا.
– نَوَّارَةُ، يَا بِنْتِي، اعْذِرِينِي، وَلَكِنَّ كَمَالًا جَاءَنِي هَذَا الصَّبَاحَ، وَسَلَّمَنِي هَذَا.
نَاوَلَهَا الْكِتَابَ، وَقَالَ: قَالَ لِي: إِنْ قَرَأَتْهُ، وَوَجَدَتْ فِيهِ صِدْقًا، فَاغْفِرِي، وَإِنْ لَمْ تَجِدِي، فَانْسِينِي إِلَى الْأَبَدِ.
نَظَرَتْ نُوَّارَةُ إِلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ فَتَحَتِ الْكِتَابَ بِتَرَدُّدٍ.
فِي الصَّفْحَةِ الْأُولَى، وَجَدَتْ كَلِمَاتٍ كَتَبَهَا كَمَالٌ بِخَطِّ يَدِهِ: إِلَى مَنْ ظَلَمْتُهَا جَهْلًا، وَخَسِرْتُهَا حَمَاقَةً...
أَكْتُبُ لَكِ وَقَدِ انْكَشَفَتْ لِي الْحَقِيقَةُ كَالشَّمْسِ بَعْدَ غَيْمٍ كَثِيفٍ.
لَا أَطْلُبُ الْعَوْدَةَ، وَلَا أَرْجُو الصَّفْحَ، أَطْلُبُ فَقَطْ أَنْ تَعِيشِي بِسَلَامٍ، وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ قَلْبًا هُنَا... مَا زَالَ يَذْكُرُكِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَيَهْمِسُ بِاسْمِكِ...
تَسَاقَطَتْ دُمُوعُ نَوَّارَةَ عَلَى الْوَرَقِ، ثُمَّ أَغْلَقَتِ الْكِتَابَ دُونَ أَنْ تُكْمِلَ.
قَالَتْ لِلشَّيْخِ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ:
– لَا أَعْلَمُ إِنْ كُنْتُ قَادِرَةً عَلَى الْمُسَامَحَةِ...
وَلَكِنِّي لَسْتُ قَادِرَةً عَلَى الْكَرَاهِيَةِ...
وَفِي الْمَسَاءِ، رَأَتْ سَامِي يَحْمِلُ وَرَقَةً قَدِيمَةً وَجَدَهَا خَلْفَ التَّنُّورِ، فِيهَا رَسْمٌ لِطِفْلٍ صَغِيرٍ وَٱمْرَأَةٍ تَبْتَسِمُ.
قَالَ سَامِي: أُمِّي، هَلْ هَذَا أَنَا؟
قَالَتْ وَٱلدَّمْعَةُ تَسْكُنُ عَيْنَيْهَا: لَا، هَذَا أَنْتَ قَبْلَ أَنْ تَكْبُرَ، رَسَمَكَ وَالِدُكَ يَوْمًا حِينَ كُنْتَ تَنَامُ عَلَى صَدْرِهِ.
نَظَرَ سَامِي إِلَى الرَّسْمِ، ثُمَّ قَالَ بِهُدُوءٍ: هَلْ يَعُودُ أَبِي؟
أَجَابَتْ نَوَّارَةُ بَعْدَ لَحْظَةِ صَمْتٍ: لَا أَدْرِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يُخْفِي الْحَقِيقَةَ إِلَى الْأَبَدِ.
فِي الْخَارِجِ، كَانَتْ نَعِيمَةُ، ٱبْنَةُ الْعَمِّ، تَسْمَعُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ خَلْفِ الْجِدَارِ، وَشَفَتَاهَا تَرْتَجِفَانِ.
لِمَاذَا تَتَجَسَّسُ نَعِيمَةُ؟ وَهَلْ تَخْشَى ٱنْكِشَافَ شَيْءٍ آخَرَ؟
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ ٱلتَّالِي، لَمْ يَتَوَقَّعْ أَحَدٌ أَنْ يَلْتَقِيَ كَمَالٌ بِنَوَّارَةَ فِي نَفْسِ الْمَكَانِ، تَحْتَ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ، ٱلَّتِي شَهِدَتْ عَلَى وَعْدٍ قَدِيمٍ بَيْنَهُمَا.
كَانَتِ الْعُيُونُ مُتَّجِهَةً نَحْوَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّهَا تُرَاقِبُ مَا يَحْدُثُ، وَالْجَمِيعُ فِي الْقَرْيَةِ يَحْبِسُونَ أَنْفَاسَهُمْ...
كَمالُ الَّذِي أَتَى خُطْوَةً بَعْدَ خُطْوَةٍ فِي صَمْتٍ، كَانَ يُرَاقِبُ لَحْظَةَ اللِّقَاءِ.
كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا لِلصَّفْحِ، لَنْ يَظَلَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا سِوَى أَشْبَاحٍ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ.
وَصَلَ أَمَامَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ قَلْبُهُ يَنْبِضُ بِشِدَّةٍ.
نَوَّارَةُ الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ قَبْلَ لَحْظَةٍ، شَعَرَتْ بِقَلْبِهَا يَرْتَجِفُ مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا نَحْوَهَا.
فَهَلْ يَعُودُ لِيَقُولَ لَهَا شَيْئًا جَدِيدًا؟
هَلْ سَيَكْشِفُ الْحَقِيقَةَ؟
وَهَلْ سَتَرْتَاحُ رُوحُهَا أَخِيرًا؟
ٱقْتَرَبَ مِنْهَا، وَعَيْنَاهُ مَلِيئَتَانِ بِالْحَيْرَةِ وَالنَّدَمِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ وَمُتَوَاضِعٍ:
– نَوَّارَةُ، أَتَمَنَّى أَنْ تُصْغِيَ لِي قَلِيلًا.
نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْهَا الَّتَيْنِ كَانَتَا تَمْلَؤُهُمَا الدُّمُوعُ، وَلَكِنَّهَا قَالَتْ بِصَوْتٍ مُتَّزِنٍ:
– سَأُصْغِي لَكَ، وَلَكِنِّي لَا أَعِدُكَ بِشَيْءٍ.
وَقَفَ أَمَامَهَا، وَأَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ:
– لَقَدِ ٱكْتَشَفْتُ أَنَّنِي كُنْتُ أَعِيشُ فِي الظَّلَامِ، ظَلَمْتُكِ، ثُمَّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَمَا جَعَلَنِي أَسْتَفِيقُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهَا أَيٌّ مِنَّا...
الْحِقْدُ لَيْسَ دَافِعًا لِلْعَيْشِ، وَالظُّلْمُ لَيْسَ حَلًّا...
نَوَّارَةُ، الَّتِي كَانَتْ تُحَاوِلُ السَّيْطَرَةَ عَلَى دُمُوعِهَا، لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ الْبُكَاءِ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ:
– وَهَلْ تَظُنُّ أَنَّ الْٱعْتِذَارَ سَيَغْسِلُ الْجِرَاحَ؟
هَزَّ كَمَالٌ رَأْسَهُ بِحُزْنٍ وَقَالَ:
– لَا... وَلَكِنَّهُ بَدَايَةٌ...
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كَانَتْ مَرْوَةُ تُرَاقِبُ مِنْ بَعِيدٍ، وَكَانَتْ تَرَى فِي عَيْنَيْهَا شُكُوكًا لَمْ تُفْصِحْ عَنْهَا.
مَا الَّذِي كَانَتْ تُخْفِيهِ؟
هَلْ كَانَتْ تَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ سِرِّ كَمَالٍ؟
كَانَ قَلْبُهَا مَشْغُولًا، وَلَمْ تَكَدْ تُفْرِغُ مِنَ التَّفْكِيرِ، حَتَّى ٱقْتَرَبَتْ مِنْهَا نَعِيمَةُ، وَكَانَتْ تَتَنَفَّسُ بِصُعُوبَةٍ، وَقَدْ أَضَاءَتْ عَيْنَاهَا بِقُوَّةٍ غَيْرِ مَفْهُومَةٍ.
– أَسَمِعْتِ مَا قَالَهُ كَمَالٌ؟ – سَأَلَتْ مَرْوَةُ.
ثُمَّ أَضَافَتْ: – هَلْ تَعْتَقِدِينَ أَنَّهُ يَصْدُقُ؟
أَجَابَتْهَا نَعِيمَةُ بِتَرَدُّدٍ:
– إِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ خَطَايَاهُ، لَكِنَّنِي أَخْشَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوَاجِهَهَا.
ثُمَّ هَمَسَتْ بِجُمْلَةٍ أَخِيرَةٍ:
– وَأَنْتِ... أَنْتِ تَعْلَمِينَ الْكَثِيرَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟"
حَمَلَ كَلَامُ نَعِيمَةَ صَاعِقَةً هَزَّتْ مَرْوَةَ فِي أَعْمَاقِهَا.
هَلْ كَانَتْ نَعِيمَةُ تَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ؟
هَلْ كَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ عَلَى شَيْءٍ مَا قَبْلَ سَنَوَاتٍ؟
وَلَكِنْ، لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ مُنَاسِبًا لِمَعْرِفَةِ كُلِّ شَيْءٍ.
ٱعْتَرَاهَا الْغُمُوضُ، وَعَادَتْ مَرْوَةُ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَقَلْبُهَا يَئِنُّ مِنَ الْأَسْئِلَةِ.
وَدَاخِلَ بَيْتِ كَمَالٍ، كَانَ سَامِي يَنْظُرُ إِلَى صُورَةِ وَالِدِهِ، وَرَأَى فِيهِ صُورَةَ الرَّجُلِ الَّذِي أَصْبَحَ غَرِيبًا عَنْهُ بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ السِّنِينَ.
سَامِي شَعَرَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْ مَشَاعِرِهِ.
كَانَ يَرَى وَالِدَتَهُ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَكَانَ يَرَى دُمُوعَهَا الَّتِي لَمْ تَذْرِفْهَا مِنْ قَبْلُ.
وَلَكِنْ، مَاذَا عَنْ كَمَالٍ؟
هَلْ يَعُودُ إِلَى حَيَاةِ سَامِي؟
أَمْ أَنَّ الْمَاضِي سَيَظَلُّ يُلَاحِقُهُمْ؟
كُلُّ شَيْءٍ كَانَ مُعَلَّقًا بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَالسِّرُّ الَّذِي يَخْشَاهُ الْجَمِيعُ، كَانَ لَا يَزَالُ خَافِيًا...
فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، كَانَتْ نَوَّارَةُ تَسِيرُ بِخُطًى ثَقِيلَةٍ نَحْوَ الْحَقْلِ الَّذِي عَمِلَتْ فِيهِ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.
كَانَتِ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْرِفُ كُلَّ تَفْصِيلٍ فِيهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ، كَانَ شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ.
كَانَتْ هُنَاكَ رِيَاحٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ تَعْصِفُ دَاخِلَهَا.
هُنَاكَ، فِي الزَّمَانِ الْبَعِيدِ، كَانَ قَلْبُهَا يَنْبِضُ حُبًّا، وَكَانَ كَمَالُ شَرِيكَهَا فِي الْحَيَاةِ،
وَلَكِنَّ الْيَوْمَ، أَصْبَحَ الْمَاضِي ثِقْلًا يُحْتَمَلُ.
مَرَّتْ بِجَانِبِ حَافَّةِ الْأَرْضِ، حَيْثُ كَانَتِ الْأَشْجَارُ قَدْ تَفَرَّعَتْ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
هُنَاكَ، تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْعَتِيقَةِ، كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَا يَرْبِطُهَا بِالْمَاضِي.
جَلَسَتْ عَلَى الْأَرْضِ بِبُطْءٍ، وَأَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا لِلَحَظَاتٍ.
هَلْ حَقًّا كَانَ كَمَالُ يُحِبُّهَا كَمَا كَانَ يَظُنُّ؟
هَلْ كَانَتْ أَضَاعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بِسَبَبِ كَلِمَاتٍ قَالَتْهَا، أَوْ تَصَرُّفَاتٍ فَعَلَتْهَا دُونَ تَفْكِيرٍ؟
أَمْ أَنَّ مَا حَدَثَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ؟
كَيْفَ يُمْكِنُ لِحَيَاتِي أَنْ تَتَبَدَّلَ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ؟
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، شَعَرَتْ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ يَلْمَسُ قَلْبَهَا،
وَكَأَنَّ رُوحَهَا تُمَزَّقُ بَيْنَ حُبٍّ مَفْقُودٍ، وَخِيَانَةٍ ظَلَّتْ تُلَاحِقُهَا.
وَلَكِنْ، شَيْئًا آخَرَ كَانَ يُرَاوِدُهَا، شَيْئًا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُفْصِحَ عَنْهُ.
هَلْ تُصَدِّقُ كَمَالًا؟
هَلْ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تَغْفِرَ لَهُ بَعْدَ كُلِّ مَا مَرَّتْ بِهِ؟
فِي مَنْزِلِ كَمَالٍ، كَانَتْ صُورَةٌ عَائِلِيَّةٌ قَدِيمَةٌ عَلَى الْجِدَارِ.
كَانَ هُوَ، وَنَوَّارَةُ، وَسَامِي، فِي لَحْظَةِ سَعَادَةٍ قَدِيمَةٍ.
نَظَرَ إِلَيْهَا بِحُزْنٍ، ثُمَّ تَنَهَّدَ قَائِلًا:
– أَحْيَانًا، أُفَكِّرُ، لَوْ أَنَّنِي لَمْ أَخْسَرْهَا، هَلْ كُنْتُ سَأَكُونُ سَعِيدًا الْآنَ؟
وَلَكِنْ... كُلُّ شَيْءٍ ضَاعَ بِسَبَبِ الْخِيَانَةِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ يُفَكِّرُ، قَرَّرَ أَنْ يَذْهَبَ لِلْبَحْثِ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِنَفْسِهِ.
مَا دَامَتِ الظُّرُوفُ تَفْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ بِنَاءَ جُسُورِ الْعَلَاقَةِ.
بَحَثَ... بَحْثًا طَوِيلًا عَنْ السِّنِينَ الضَّائِعَةِ،
بَدَأَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفَتَاةَ الَّتِي أَحَبَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ،
وَأَنَّ الْأُمُورَ قَدْ تَتَغَيَّرُ عِنْدَمَا يُوَاجِهُ الْحَقِيقَةَ...
وَفِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ، بَعْدَ أَنْ كَبِرَ سَامِي وَأَصْبَحَ شَابًّا، ذَهَبَ إِلَى أَحَدِ أَصْدِقَاءِ وَالِدِهِ الْقُدَمَاءِ، وَكَانَ يُدْعَى: مُصْطَفَى.
كَانَ مُصْطَفَى الرَّجُلَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي الْقَرْيَةِ، وَيَعْرِفُ كُلَّ أَسْرَارِ الْمَاضِي، وَكَانَ يَرَى كُلَّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ مِرْآةٌ لِمَاضِيهِمْ.
– مُصْطَفَى، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي عَنْ أَبِي؟ هَلْ كَانَ كَمَا أَخْبَرَتْنِي أُمِّي؟
سَأَلَهُ سَامِي بِشَغَفٍ، وَالدُّمُوعُ تَتَجَمَّعُ فِي عَيْنَيْهِ.
فَأَجَابَ مُصْطَفَى بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ:
– يَا سَامِي، فِي الْحَقِيقَةِ، هُنَاكَ أَشْيَاءُ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ غَيْرُ كَمَالٍ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ تَكُونُ السَّبَبَ فِي كُلِّ مَا حَدَثَ.
كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ لَا أَحَدَ مِنْكُمْ سَيَكْتَشِفُ السِّرَّ، وَلَكِنْ حَانَ الْوَقْتُ الْآنَ، فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَفِرَّ مِنَ الْحَقَائِقِ.
شبَدَأَ مُصْطَفَى يَتَحَدَّثُ عَنْ شَيْءٍ غَامِضٍ كَانَ يَحْدُثُ قَبْلَ سَنَوَاتٍ، عَنْ رِجَالٍ كَانَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُمْ أَصْدِقَاءُ كَمَالٍ،
وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ كَانَتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ كَانُوا وَرَاءَ الْكَثِيرِ مِنَ الْمَآسِي الَّتِي عَاشَهَا كَمَالٌ وَعَائِلَتُهُ.
وَبَيْنَمَا كَانَ سَامِي يَسْتَمِعُ بِتَرْكِيزٍ، شَعَرَ أَنَّ شَيْئًا كَبِيرًا بَدَأَ يَنْكَشِفُ أَمَامَهُ،
شَيْءٌ سَيَفْتَحُ الْأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ فِي حَيَاتِهِ.
مَا هُوَ هَذَا السِّرُّ الَّذِي طَالَمَا حَاوَلَ الْجَمِيعُ إِخْفَاءَهُ؟
هَلْ سَيَكْشِفُ سَامِي الْحَقِيقَةَ كَمَا يَجِبُ؟
هَلْ سَيُوَاجِهُ وَالِدَهُ؟
فِي النِّهَايَةِ، كَانَتِ الْأَيَّامُ تَتَسَارَعُ، وَلَكِنَّ سَامِي كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ رِحْلَةَ اكْتِشَافِ الْحَقِيقَةِ لَنْ تَكُونَ سَهْلَةً.
كَانَتِ الْعَوَاصِفُ الْقَادِمَةُ تُهَدِّدُ الْجَمِيعَ، وَكَانَ مِنَ الصَّعْبِ تَجَاهُلُ الْأَثَرِ الْعَمِيقِ لِهَذَا الْمَاضِي.
وَفِي الْمَسَاءِ، حِينَ اجْتَمَعَ الْجَمِيعُ فِي الْمَنْزِلِ، كَانَ كَمَالُ يُرَاقِبُ وَجْهَ نَوَّارَةَ بِصَمْتٍ،
فِي عَيْنَيْهِ كَانَتِ الْحَيْرَةُ، وَفِي قَلْبِهِ كَانَ النَّدَمُ.
– نَوَّارَةُ، هُنَاكَ شَيْءٌ أَخِيرٌ يَجِبُ أَنْ أُخْبِرَكِ بِهِ،
قَالَهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ، وَكَأَنَّ الْكَلِمَةَ الْأَخِيرَةَ كَانَتْ تَعْنِي الْكَثِيرَ.
هَلْ سَيَكْشِفُ السِّرَّ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ؟
هَلْ سَيَحْصُلُ عَلَى فُرْصَةٍ أُخْرَى لِيَبْدَأَ مِنْ جَدِيدٍ؟
كَانَتِ السَّاعَةُ قَدْ تَجَاوَزَتْ مُنْتَصَفَ اللَّيْلِ، وَكَمَالٌ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النَّوْمِ،
كَانَ جَالِسًا فِي زَاوِيَةِ مَنْزِلِهِ، عَيْنَاهُ تُحَدِّقَانِ فِي الْجِدَارِ أَمَامَهُ، حَيْثُ كَانَتِ الصُّوَرُ الْعَائِلِيَّةُ الْمُعَلَّقَةُ تَرْوِي قِصَصًا عَنْ أَيَّامٍ مَضَتْ.
أَيَّامٌ كَانَ فِيهَا كَمَالُ وَنَوَّارَةُ فِي غَايَةِ السَّعَادَةِ، أَيَّامٌ كَانَتْ فِيهَا السَّعَادَةُ حَقِيقَةً لَا تَقْبَلُ الْجَدَلَ،
وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَبَدَّدَ فِي لَحْظَةٍ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، شَعَرَ كَمَالُ بِثِقَلٍ يُرَاكِمُهُ عَلَى قَلْبِهِ،
كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي سَيَقُولُهَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ قَدْ تَكُونُ النِّهَايَةَ، أَوْ بَدَايَةَ شَيْءٍ آخَرَ.
نَزَلَ إِلَى الطَّابَقِ السُّفْلِيِّ، حَيْثُ كَانَتْ نَوَّارَةُ تَضَعُ رَأْسَهَا عَلَى الْوِسَادَةِ،
وَالدُّمُوعُ الَّتِي كَانَتْ قَدْ جَفَّتْ قَبْلَ قَلِيلٍ،
كشف السر
بَدَأَتْ تَعُودُ إِلَى عَيْنَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَفَ أَمَامَهَا وَقَالَ بِصَوْتٍ حَزِينٍ:
– نُوه، لَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ... هُنَاكَ سِرٌّ يُلَاحِقُنِي، وَكَانَ وَرَاءَ كُلِّ شَيْءٍ حَدَثَ بَيْنَنَا،
سِرٌّ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُخْبِرَكِ بِهِ طِوَالَ تِلْكَ السَّنَوَاتِ.
نَظَرَتْ إِلَيْهِ نَوَّارَةُ بِتَرَدُّدٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ:
– مَا هُوَ هَذَا السِّرُّ، يَا كَمَالُ؟ لَقَدْ تَعِبْتُ مِنَ الِانْتِظَارِ... كُلُّ شَيْءٍ فِي حَيَاتِي أَصْبَحَ غَامِضًا، حَتَّى أَنْتَ.
جَلَسَ كَمَالُ عَلَى حَافَّةِ السَّرِيرِ، وَأَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ،
وَكَأَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُثْقَلًا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ كَلِمَاتٍ.
– السِّرُّ يَتَعَلَّقُ بِصَدِيقٍ قَدِيمٍ لِي... كَانَ اسْمُهُ: دَاوُود... كَانَ يُسَيْطِرُ عَلَى حَيَاتِنَا...
لَكِنَّنِي لَمْ أَكْتَشِفْ ذَلِكَ إِلَّا فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ، كَانَ هُوَ مَنْ بَدَأَ بِتَسْمِيمِ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَنَا، وَجَعَلَنِي أَعِيشُ فِي دَوَّامَةٍ مِنَ الشُّكُوكِ، كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يَجْعَلَنِي أَظُنُّ أَنَّكِ تَخُونِينَنِي، وَقَدْ صَدَّقْتُهُ، صَدَّقْتُهُ عَلَى حِسَابِكِ وَعَلَى حِسَابِنَا.
نَوَّارَةُ كَانَتْ تَجْلِسُ فِي صَمْتٍ تَامٍّ، تَتَفَحَّصُ كَلِمَاتِ كَمَالٍ بِعِنَايَةٍ، فَقَالَتْ بِهُدُوءٍ:
– وَلَكِنْ، لِمَاذَا أَخْفَيْتَ كُلَّ هَذَا عَنِّي؟ لِمَاذَا لَمْ تُخْبِرْنِي؟ لِمَاذَا لَمْ نُوَاجِهْهُ مَعًا؟
فَابْتَسَمَ بِحُزْنٍ وَقَالَ:
– لِأَنَّنِي كُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنَّنِي وَحْدِي مَنْ يَجِبُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَسْؤُولِيَّةَ، كُنْتُ خَائِفًا أَنْ أُوَاجِهَ الْحَقِيقَةَ، وَكُنْتُ أَخْشَى أَنْ يُدَمِّرَ ذَلِكَ حَيَاتَنَا.
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، دَخَلَ سَامِي فَجْأَةً إِلَى الْغُرْفَةِ، كَانَ وَجْهُهُ يَحْمِلُ مَلَامِحَ مِنَ الصَّدْمَةِ وَالتَّسَاؤُلَاتِ.
– أُمِّي... أَبِي... مَا الَّذِي يَحْدُثُ هُنَا؟
سَأَلَ بِصَوْتٍ يَرْتَجِفُ مِنَ الْقَلَقِ، وَكَانَتْ عَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِحَيْرَةٍ.
فَأَجَابَهُ أَبُوهُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، وَكَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ كَانَتْ تَحْمِلُ وَزْنَ سَنَوَاتٍ مِنَ الْأَلَمِ:
– يَا سَامِي، هُنَاكَ أَشْيَاءُ لَا تَعْرِفُهَا عَنْ مَاضِينَا، وَأَنْتَ بِحَاجَةٍ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، دَخَلَتْ مَرْوَةُ إِلَى الْمَنْزِلِ، كَانَتْ قَدْ سَمِعَتْ جُزْءًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَكَانَتْ تَشْعُرُ بِارْتِبَاكٍ عَمِيقٍ فِي قَلْبِهَا.
هِيَ أَيْضًا كَانَتْ تَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ دَاوُودَ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً فِي إِخْبَارِ كَمَالٍ.
– هَلْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ دَاوُودَ كَانَ يُخَطِّطُ لِكُلِّ شَيْءٍ؟
قَالَتْ مَرْوَةُ بِصَوْتٍ جَادٍّ.
فَاغْتَاظَ كَمَالٌ مِنْ سُؤَالِهَا الْمُفَاجِئِ، لَكِنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّهُ لَيْسَ أَمَامَهُ الْكَثِيرُ مِنَ الْوَقْتِ لِلتَّجَاهُلِ، فَقَالَ:
– نَعَمْ، أَعْرِفُ الْآنَ، وَلَكِنْ كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَكْتَشِفَ ذَلِكَ بِنَفْسِي.
هَذَا مَا جَعَلَنِي أَتَجَاهَلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّنِي مُسْتَعِدٌّ الْآنَ لِلْمُوَاجَهَةِ.
نَظَرَتْ مَرْوَةُ إِلَى نَوَّارَةَ وَقَالَتْ بِحُزْنٍ:
– كُلُّ مَا حَدَثَ كَانَ خُدْعَةً، وَكُلَّمَا تَأَخَّرْنَا فِي الْمُوَاجَهَةِ، كُلَّمَا أَصْبَحَتِ الْأُمُورُ أَكْثَرَ تَعْقِيدًا...
يَجِبُ أَنْ نُوَاجِهَ الْحَقِيقَةَ، مَهْمَا كَانَتْ.
الْكَلِمَاتُ بَيْنَ كَمَالٍ وَنَوَّارَةَ وَسَامِي تَتَنَاثَرُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يَضَعَ النِّقَاطَ عَلَى الْحُرُوفِ.
كَانَتِ الْحَقِيقَةُ تَتَسَلَّلُ إِلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ، وَلَكِنَّ الْأَسْئِلَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْإِجَابَاتِ.
وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، قَرَّرَ كَمَالٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَكَانٍ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آخِرُ مَكَانٍ سَيَبْحَثُ فِيهِ عَنِ السَّلَامِ،
كَانَ يَجِبُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى حَيْثُ بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ، إِلَى حَيْثُ كَانَتْ بَدَايَةُ الْخِيَانَةِ.
كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاجِهَ دَاوُودَ، وَأَنْ يَقْطَعَ كُلَّ الْخُيُوطِ الَّتِي رَبَطَتْ حَيَاتَهُ بِحَيَاتِهِ بِطَرِيقَةٍ مُؤْلِمَةٍ.
هَلْ سَتَكْشِفُ الْمُوَاجَهَةُ الْقَادِمَةُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؟
هَلْ سَيَجِدُ فَهْدٌ طَرِيقَهُ لِإِصْلَاحِ مَا حَدَثَ؟
فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، كَانَ سَامِي يَسْتَعِدُّ لِمُوَاجَهَةِ الْحَقِيقَةِ بِنَفْسِهِ،
كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْخُذْلَانِ فِي قِصَّتِهِ،
وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ الَّتِي سَيَكْتَشِفُهَا سَتَكُونُ أَصْعَبَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَيَّلَهُ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَ كَمَالٌ مُسْتَعِدًّا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ، كَانَ قَلْبُهُ مُثْقَلًا بِمَا سَيَقُولُهُ دَاوُودُ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ.
كَانَتْ مَرْوَةُ قَدْ أَخْبَرَتْهُ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ عَنْ مَكَانِ دَاوُودَ،
وَلَكِنَّ كَمَالًا لَمْ يَكُنْ مُتَأَكِّدًا مِمَّا سَيَجِدُهُ هُنَاكَ.
هَلْ سَتُغَيِّرُ هَذِهِ الْمُوَاجَهَةُ كُلَّ شَيْءٍ؟
هَلْ سَيَسْتَطِيعُ أَنْ يُوَاجِهَ نَفْسَهُ، وَنَوَّارَةَ، وَسَامِي بِالْحَقِيقَةِ؟
وَبَيْنَمَا كَانَ يَهَمُّ بِالْخُرُوجِ، رَأَتْهُ نَوَّارَةُ وَاقِفًا عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
– كَمَال، هَلْ حَقًّا تَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ سَتَكُونُ سَهْلَةً؟ هَلْ سَتَتَمَكَّنُ مِنْ تَحَمُّلِ مَا سَيَكْشِفُهُ دَاوُودُ؟
فَأَجَابَ كَمَالٌ وَهُوَ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ قَلِيلًا:
– لَا أَعْتَقِدُ أَنَّ أَيَّ شَيْءٍ سَيَكُونُ سَهْلًا بَعْدَ الْآنَ،
وَلَكِنْ، لَا يُمْكِنُنِي الْهُرُوبُ بَعْدَ الْيَوْمِ، عَلَيْنَا أَنْ نُوَاجِهَ الْحَقِيقَةَ مَهْمَا كَانَتْ.
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى سَامِي الَّذِي كَانَ يَقِفُ خَلْفَهُ، وَيُرَاقِبُ الْمَوْقِفَ بِصَمْتٍ.
– سَامِي، أَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ، فَأَنْتَ جُزْءٌ مِنْ عَائِلَتِي، وَأَنْتَ مَنْ سَيُقَرِّرُ كَيْفَ سَنُكْمِلُ هَذَا الطَّرِيقَ.
أَنَا أَخْطَأْتُ، وَلَكِنَّنِي الْآنَ أُدْرِكُ مَا فَعَلْتُ.
قَالَهَا كَمَالٌ بِنَبْرَةٍ مَلِيئَةٍ بِالنَّدَمِ.
بَيْنَمَا كَانَتْ نَظَرَاتُ سَامِي تَحْمِلُ خَلِيطًا مِنَ الْغَضَبِ وَالْحَيْرَةِ، لَمْ يَكُنْ سَامِي قَدْ قَرَّرَ بَعْدُ كَيْفَ يَتَعَامَلُ مَعَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي اكْتَشَفَهَا، وَلَكِنْ شَيْئًا بَدَا وَكَأَنَّ الزَّمَانَ قَدْ حَانَ لِيَرَى تِلْكَ الصُّورَةَ الْمُظْلِمَةَ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ وُضُوحًا.
قَبْلَ أَنْ يُغَادِرَ كَمَالٌ، قَالَ لِزَوْجَتِهِ: لَا أَعِدُكِ بِأَنَّ الْأُمُورَ سَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ، وَلَكِنَّنِي أَعِدُكِ بِأَنَّنِي سَأَفْعَلُ مَا بِوُسْعِي لِتَصْحِيحِ أَخْطَائِي.
وَفِي الطَّرِيقِ إِلَى مَكَانِ دَاوُودَ، كَانَ كَمَالٌ يَسِيرُ بِخُطًى ثَقِيلَةٍ، وَكَانَتْ كُلُّ خُطْوَةٍ تَقُودُهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَخْشَاهُ طِوَالَ هَذِهِ السَّنَوَاتِ.
كَانَتِ الرِّيَاحُ تَهُبُّ بِعُنْفٍ، وَكَأَنَّ الطَّبِيعَةَ نَفْسَهَا كَانَتْ تُحَاوِلُ إِيقَافَهُ عَنِ الْمَضِيِّ قُدُمًا.
وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِ دَاوُودَ، الَّذِي كَانَ يَقَعُ فِي أَحَدِ أَطْرَافِ الْقَرْيَةِ، فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنِ الْأَنْظَارِ.
دَخَلَ كَمَالٌ الْمَنْزِلَ بِحَذَرٍ، وَبَيْنَمَا كَانَ قَلْبُهُ يَنْبِضُ بِسُرْعَةٍ، لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا الَّذِي سَيَجِدُهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَأَكِّدًا مِنْ أَمْرٍ وَاحِدٍ: لَابُدَّ مِنْ إِنْهَاءِ هَذَا الْفَصْلِ الْمُؤْلِمِ فِي حَيَاتِهِ.
عِنْدَمَا رَآهُ دَاوُودُ، ابْتَسَمَ ابْتِسَامَةً خَبِيثَةً، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ هَذِهِ اللَّحْظَةَ طِوَالَ الْوَقْتِ.
"أَهْلًا، كَمَالُ! كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ سَتَأْتِي فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ!"، قَالَهَا دَاوُودُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِنَظْرَةٍ مَلِيئَةٍ بِالتَّحَدِّي، وَبَيْنَمَا كَانَ كَمَالٌ يُحَدِّقُ فِيهِ بِغَضَبٍ.
لِمَاذَا؟ لِمَاذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ لِمَاذَا جَعَلْتَنِي أُصَدِّقُ أَكَاذِيبَكَ طِوَالَ هَذِهِ السَّنَوَاتِ؟!"، سَأَلَ كَمَالٌ بِصَوْتٍ عَالٍ، وَبَيْنَمَا كَانَ كُلُّ شَيْءٍ حَوْلَهُ يَسْكُنُ، وَكَأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ تَوَقَّفَ لَحْظَةً وَاحِدَةً.
أَجَابَ دَاوُودُ بِابْتِسَامَةٍ سَاخِرَةٍ: "لِأَنَّكَ كُنْتَ ضَعِيفًا، يَا كَمَالُ! كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى التَّحَكُّمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ.
كُنْتُ أُرَاقِبُكَ وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ تَحْكُمُ. كُنْتُ أُرَاقِبُ عَائِلَتَكَ وَأَنْتَ تَبْتَعِدُ عَنْ كُلِّ مَنْ يُحِبُّكَ.
وَبَيْنَمَا كَانَ كَمَالٌ يَقِفُ هُنَاكَ، كَانَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ دَاوُودَ تُشْبِهُ الطَّعْنَةَ فِي قَلْبِهِ.
كَانَتْ كُلُّ ثَانِيَةٍ تَمُرُّ، وَكَأَنَّهَا عِقَابٌ، لَكِنَّ كَمَالًا كَانَ قَدْ قَرَّرَ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقِيقَةَ بِالْكَامِلِ، مَهْمَا كَانَتْ.
أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ، كُلَّ شَيْءٍ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَنِي أَعِيشُ فِي هَذَا الْكَابُوسِ!"، قَالَهَا كَمَالٌ بِنَبْرَةٍ قَوِيَّةٍ، وَبَيْنَمَا كَانَ دَاوُودُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِتَمَعُّنٍ.
حَسَنًا، إِذَا كُنْتَ مُصِمِّمًا، فَاسْتَمِعْ.
كَانَ هَدَفُنَا دَائِمًا أَنْ تَبْتَعِدَ عَنْ نَوَارَةَ، لِأَنَّكَ كُنْتَ تَعْنِي لِي أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتَ تُدْرِكُ.
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَضَعَكَ فِي مَأْزِقٍ، وَأَجْعَلَكَ تَرَى كُلَّ شَيْءٍ يَنْهَارُ مِنْ حَوْلِكَ، وَكَمَا تَرَى... قَدْ نَجَحْتُ فِي ذَلِكَ!"
لَمْ يَكُنْ كَمَالٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَدِّقَ مَا سَمِعَهُ.
كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يُصْبِحُ أَكْثَرَ وُضُوحًا الْآنَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُخَفِّفْ مِنْ وَطْأَةِ الْأَلَمِ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ.
"إِذَنْ، كُلُّ مَا حَدَثَ، كَانَ مُجَرَّدَ لُعْبَةٍ بِالنِّسْبَةِ لَكَ؟! حَيَاةُ عَائِلَةٍ كَانَتْ مُجَرَّدَ رِهَانَاتٍ عِنْدَكَ؟!"، سَأَلَهُ كَمَالٌ بِغَضَبٍ.
أَجَابَ دَاوُودُ وَهُوَ يَقِفُ، مُسْتَعِدًّا، فِي إِشَارَةٍ إِلَى النِّهَايَةِ: "نَعَمْ، كَانَتْ لُعْبَةً... وَأَنَا رَبِحْتُهَا!"
لَحَظَاتٌ طَوِيلَةٌ مِنَ الصَّمْتِ مَرَّتْ بَيْنَهُمَا.
كَانَ كَمَالٌ يَقِفُ هُنَاكَ، وَقَدِ اكْتَشَفَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي دَمَّرَتْهُ، وَلَكِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّحْظَةُ حَاسِمَةً بِالنِّسْبَةِ لَهُ.
هَلْ سَيَظَلُّ فِي الظَّلَامِ الَّذِي أَلْقَاهُ فِيهِ دَاوُودُ؟ أَمْ سَيَعُودُ لِيُوَاجِهَ نَوَارَةَ وَسَامِي وَيُحَاوِلَ إِصْلَاحَ كُلِّ مَا دَمَّرَهُ؟
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، عَادَ سَامِي إِلَى الْمَنْزِلِ، وَكَانَ يَشْعُرُ أَنَّ شَيْئًا مَا كَانَ يَتَغَيَّرُ دَاخِلَ قَلْبِهِ.
كَانَ يَرْكُضُ بِسُرْعَةٍ، وَعَيْنَاهُ مَلِيئَتَانِ بِالْأَسْئِلَةِ.
هَلْ سَيَكْتَشِفُ أَنَّ وَالِدَهُ لَمْ يَكُنِ الضَّحِيَّةَ فَقَطْ؟
هَلْ سَيُقَرِّرُ سَامِي أَنْ يَسِيرَ فِي الطَّرِيقِ الْمُظْلِمِ، أَمْ سَيَبْنِي لِنَفْسِهِ مُسْتَقْبَلًا جَدِيدًا، بَعِيدًا عَنْ ظِلِّ الْخِيَانَةِ؟
فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا السَّمَاءُ تُغَيِّمُ، وَتَخْتَلِطُ السُّحُبُ فَوْقَ الْقَرْيَةِ، شَعَرَ سَامِي بِشَيْءٍ غَرِيبٍ يَدْفَعُهُ نَحْوَ الْعَوْدَةِ إِلَى الْمَنْزِلِ بِسُرْعَةٍ أَكْبَرَ.
كَانَ لَدَيْهِ إِحْسَاسٌ قَوِيٌّ بِأَنَّ مَا سَيَحْدُثُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّحْظَةِ سَيُغَيِّرُ كُلَّ شَيْءٍ.
مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ كَانَ يَخْطُوهَا، كَانَ عَقْلُهُ يُعِيدُ مَشَاهِدَ تِلْكَ السَّنَوَاتِ الْمُظْلِمَةِ الَّتِي عَاشَهَا هُوَ وَوَالِدَتُهُ نَوَارَةُ، بِسَبَبِ قَرَارَاتِ كَمَالٍ الْجَائِرَةِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ سَامِي يَرْكُضُ بِاتِّجَاهِ مَنْزِلِ وَالِدِهِ، كَانَ كَمَالُ لَا يَزَالُ يَقِفُ فِي الْمَنْزِلِ الْقَدِيمِ الَّذِي الْتَقَى فِيهِ مَعَ دَاوُودَ.
كَانَ ذِهْنُهُ مُشَوَّشًا، مَلِيئًا بِالصُّوَرِ وَالْأَفْكَارِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَلَكِنْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَطْ جَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى الْوُقُوفِ مَرَّةً أُخْرَى.
عَلَى الرُّغْمِ مِنْ كُلِّ الْأَلَمِ وَالصَّدْمَةِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى عَائِلَتِهِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ لِنَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَوَارَةَ وَسَامِي، أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِصْلَاحِ الْأُمُورِ.
كَمالٌ، الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى حَافَّةِ الصَّمْتِ فِي مُوَاجَهَةِ دَاوُودَ، عَادَ فَجْأَةً لِيَقِفَ وَيَقُولَ:
"أَنَا لَا أَقْبَلُ أَنْ تَنْتَهِيَ هَذِهِ الْقِصَّةُ هُنَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ بَدَايَةُ النِّهَايَةِ قَدْ بَدَأَتِ الْيَوْمَ،
فَأَنَا سَأُقَاتِلُ لِأَسْتَعِيدَ كَرَامَتِي وَعَائِلَتِي!
دَاوُودُ، الَّذِي كَانَ يَرَى نَفْسَهُ فِي مَوْقِعِ الْقُوَّةِ...
كشف الحقيقة
لَكِنَّ نَبْرَةَ صَوْتِهِ كَانَتْ تَفُوحُ بِالأَلَمِ وَالانْكِسَارِ. قَالَ دَاوُودُ بِسُخْرِيَّةٍ: – أَنْتَ حَقًّا لَا تَفْهَمُ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ الآنَ؟ هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّكَ يُمْكِنُكَ إِصْلَاحُ كُلِّ شَيْءٍ؟ الحَقِيقَةُ وَاضِحَةٌ أَمَامَكَ يَا كَمَالُ... أَنْتَ كُنْتَ ضَحِيَّةَ ثِقَتِكَ العَمْيَاءِ، أَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أَرَى الأُمُورَ بِوُضُوحٍ. كَانَ دَاوُودُ يُحَدِّقُ فِي كَمَالٍ كَمَنْ يَرَاهُ ضَعِيفًا وَمُنْهَكًا بِأَوْهَامِهِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ رَبِحَ المَعْرَكَةَ، وَلَكِنَّ كَمَالًا لَمْ يَسْتَسْلِمْ بَعْدُ. قَالَ كَمَالُ وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِالعَزِيمَةِ: – مَا دُمْتُ حَيًّا، فَإِنَّنِي سَأُحَارِبُ مِنْ أَجْلِ عَائِلَتِي، وَسَأَكْتَشِفُ مَا إِذَا كَانَتِ الحَقِيقَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَسْوَأَ مِمَّا أَتَخَيَّلُ، أَمْ أَنَّهَا فِي النِّهَايَةِ سَتَفْتَحُ لِي طَرِيقًا جَدِيدًا... الطَّرِيقَ الَّذِي أُعِيدُ فِيهِ بِنَاءَ حَيَاتِي.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، شَعَرَ كَمَالٌ، أَوْ فَهْدٌ كَمَا كَانَ يُسَمِّيهِ دَاوُودُ، بِمَوْجَةٍ مِنَ الحُزْنِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِقُوَّةٍ وَإِصْرَارٍ.
قَرَّرَ أَنْ يَعُودَ إِلَى البَيْتِ، وَأَنْ يُوَاجِهَ نَوَّارَةَ وَسَامِي، كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ دَمَّرَ كَثِيرًا فِي السَّنَوَاتِ المَاضِيَةِ، وَلَكِنَّ العَوْدَةَ إِلَى المَنْزِلِ كَانَتْ بَدَايَةً جَدِيدَةً.
فِي نَفْسِ الوَقْتِ، كَانَ سَامِي قَدْ وَصَلَ إِلَى المَنْزِلِ، وَقَلْبُهُ يَنْبِضُ بِعُنْفٍ، وَعَيْنَاهُ مُمْتَلِئَتَانِ بِالحَيْرَةِ وَالقَلَقِ.
دَخَلَ وَجَدَ أُمَّهُ نَوَّارَةَ جَالِسَةً عَلَى الكُرْسِيِّ الخَشَبِيِّ القَدِيمِ فِي الزَّاوِيَةِ، وَآثَارُ الحُزْنِ وَاضِحَةٌ فِي عَيْنَيْهَا.
قَالَ سَامِي بِنَبْرَةٍ فِيهَا مَسْحَةٌ مِنَ الاسْتِفْهَامِ:
– أُمِّي... هَلْ حَدَثَ شَيْءٌ؟ أَيْنَ أَبِي؟ لِمَاذَا هُوَ غَائِبٌ طِوَالَ هَذَا الوَقْتِ؟
نَظَرَتْ نَوَّارَةُ إِلَى ابْنِهَا، وَأَجَابَتْهُ بِصَوْتٍ مُتَأَلِّمٍ:
– لَا أَعْرِفُ يَا سَامِي، وَلَكِنَّنِي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ الحَقِيقَةُ أَكْبَرَ مِمَّا كُنَّا نَعْتَقِدُ. أَبُوكَ يَحْتَاجُ إِلَى الوَقْتِ، رُبَّمَا اكْتَشَفَ شَيْئًا... شَيْئًا قَدْ يُغَيِّرُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَضَعَ سَامِي يَدَهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَجَلَسَ بِجَانِبِ أُمِّهِ قَائِلًا:
– إِذَا كَانَتِ الحَقِيقَةُ سَتُؤْذِينَا أَكْثَرَ مِمَّا نَحْتَمِلُ، فَلَا أُرِيدُ مَعْرِفَتَهَا. وَلَكِنْ... إِذَا كَانَتْ سَتَمْنَحُنَا فُرْصَةً لِلْعَيْشِ بِسَلَامٍ، فَلْيَكُنْ. قَبْلَ أَنْ تَنْطِقَ نَوَّارَةُ بِأَيِّ كَلِمَةٍ، سَمِعُوا صَوْتَ بَابِ المَنْزِلِ يُفْتَحُ. دَخَلَ كَمَالٌ... وَجْهُهُ شَاحِبٌ، وَعَيْنَاهُ مُمْتَلِئَتَانِ بِتَعَبٍ طَوِيلٍ.
قَالَتْ نَوَّارَةُ بِقَلَقٍ وَاسِعٍ: – فَهْد... أَيْنَ كُنْتَ؟ مَاذَا حَدَثَ؟ لَمْ يُجِبْ فَوْرًا، بَلْ نَظَرَ إِلَى سَامِي، ثُمَّ إِلَى نَوَّارَةَ، وَقَالَ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ: – الحَقِيقَةُ يَا نَوَّارَةُ... مَا كُنْتُ أَخْشَاهُ طَوَالَ هَذِهِ السِّنِينَ... كَانَ مِنَ الصَّعْبِ عَلَيَّ أَنْ أُوَاجِهَهُ، وَلَكِنَّنِي الْيَوْمَ فَقَطْ أَدْرَكْتُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ أُوَاجِهَهُ. وَلَكِنِّي... لَا أُرِيدُكِ أَنْ تَكُونِي ضِدِّي هَذِهِ المَرَّةِ. أُرِيدُكِ أَنْ تَكُونِي مَعِي.
فُوجِئَتْ نَوَّارَةُ بِمَا سَمِعَتْ، وَلَكِنَّهَا أَدْرَكَتْ أَنَّ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الوَحِيدُ لِإِنْهَاءِ هَذِهِ المَأْسَاةِ.
أَلْقَى كَمَالٌ نَظْرَةَ حُزْنٍ عَمِيقَةً عَلَى سَامِي، ثُمَّ قَالَ:
– أَنَا آسِفٌ... لَقَدْ خُنْتُكُمَا، وَلَكِنَّنِي وَعَدْتُ نَفْسِي أَنَّنِي سَأُصَحِّحُ كُلَّ شَيْءٍ. سَأُوَاجِهُ مَنْ جَعَلَنِي أَعِيشُ فِي الظَّلَامِ... سَأُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِ عَائِلَتِي.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تَذَكَّرَ سَامِي كَلِمَاتِ دَاوُودَ الَّتِي كَانَتْ تُدَاوِرُ فِي ذِهْنِهِ: لَقَدْ كُنْتَ فِي الظَّلَامِ... وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ قَدْ تَجْلِبُ الضَّوْءَ.
كَانَ ذَلِكَ القَرَارُ الكَبِيرُ هُوَ بَدَايَةَ الطَّرِيقِ الَّذِي سَيُغَيِّرُ حَيَاةَ الجَمِيعِ... وَلَكِنْ، إِلَى أَيْنَ سَيَقُودُهُمْ؟ لَا أَحَدَ يَعْرِفُ الجَوَابَ بَعْدُ.
فِي الأَيَّامِ الَّتِي تَلَتْ عَوْدَةَ كَمَالٍ، كَانَتِ الأَجْوَاءُ فِي المَنْزِلِ مَشْحُونَةً بِالتَّوَتُّرِ وَالصَّمْتِ، وَكُلُّ زَاوِيَةٍ فِيهِ تَحْمِلُ ذِكْرَى أَلِيمَةً مِنَ المَاضِي.
كَانَ كَمَالٌ غَارِقًا فِي أَفْكَارِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ النَّوْمَ، وَلَا التَّحَدُّثَ بِشَكْلٍ طَبِيعِيٍّ. كَانَ يَشْعُرُ أَنَّ الزَّمَنَ قَدْ خَدَعَهُ، وَأَنَّهُ أَضَاعَ سَنَوَاتٍ مِنْ عُمْرِهِ فِي الظُّلُمَاتِ.
أَمَّا نَوَّارَةُ، فَكَانَتْ تَشْعُرُ بِقَلَقٍ شَدِيدٍ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا سَيَكْشِفُهُ كَمَالٌ أَكْثَرَ قَسْوَةً مِمَّا تَتَصَوَّرُ.
فِي إِحْدَى اللَّيَالِي، وَبَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الصَّمْتِ، قَرَّرَ كَمَالٌ أَنْ يُوَاجِهَ الجَمِيعَ.
كَانَتْ عَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَيْنِ بِالتَّسَاؤُلَاتِ وَالنَّدَمِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ: ضَرُورَةُ الكَشْفِ عَنِ الحَقِيقَةِ، مَهْمَا كَانَتْ عَوَاقِبُهَا.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كَانَ سَامِي يَجْلِسُ فِي فِنَاءِ المَنْزِلِ، يَنْظُرُ إِلَى النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ.
كَانَ يَشْعُرُ بِفَرَاغٍ كَبِيرٍ فِي قَلْبِهِ، حَائِرًا بَيْنَ رَغْبَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ الحَقِيقَةِ، وَبَيْنَ خَوْفِهِ مِنْ أَنْ يَكْتَشِفَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَهُ.
فَجْأَةً، شَعَرَ بِحَرَكَةٍ خَلْفَهُ. وَعِنْدَمَا اسْتَدَارَ، وَجَدَ وَالِدَهُ كَمَالًا يَقِفُ هُنَاكَ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِتَعَبٍ، وَكَأَنَّهُ يَعْتَرِفُ لَهُ بِشَيْءٍ عَمِيقٍ. قَالَ كَمَالُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: – سَامِي، هُنَاكَ شَيْءٌ يَجِبُ أَنْ تَعْرِفَهُ، شَيْءٌ غَامِضٌ، كُنْتُ أُخْفِيهِ عَنْكَ وَعَنْ أُمِّكَ طَوَالَ هَذِهِ السِّنِينَ. هُنَاكَ سِرٌّ كَانَ يُطَارِدُنِي، وَهُوَ السَّبَبُ فِي كُلِّ مَا حَدَثَ. نَظَرَتْ عَيْنَا سَامِي إِلَى وَالِدِهِ، وَتَوَتَّرَ قَلْبُهُ.
قَالَ بِصَوْتٍ مُمْتَلِئٍ بِالتَّرَقُّبِ: – مَا هُوَ هَذَا السِّرُّ، أَبِي؟ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ فِي كُلِّ مَا جَرَى؟
جَلَسَ كَمَالٌ إِلَى جَانِبِ ابْنِهِ عَلَى الأَرْضِ، وَقَالَ بِحُزْنٍ عَمِيقٍ: – كَانَتْ هُنَاكَ مُؤَامَرَةٌ، يَا سَامِي. مُؤَامَرَةٌ جَعَلَتْنِي أَظُنُّ أَنَّ زَوْجَتِي خَائِنَةٌ، وَأَنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعِيشَ مَعَهَا. وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ... أَنَّنِي كُنْتُ أَعِيشُ فِي وَهْمٍ.
– كُنْتُ أَتَصَوَّرُ أَنَّ هُنَاكَ شَخْصًا آخَرَ فِي حَيَاتِهَا، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّنِي طُعِنْتُ فِي ظَهْرِي. وَكُلُّ ذَلِكَ... كَانَ بِسَبَبِ شَخْصٍ آخَرَ، كَانَ اسْمُهُ... دَاوُود.
تَسَمَّرَتْ عَيْنَا سَامِي عَلَى وَالِدِهِ، وَكَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ كُلَّ كَلِمَةٍ يَنْطِقُ بِهَا كَمَالٌ...
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كَانَ كَمَالٌ يُوَاصِلُ كَشْفَ الحَقَائِقِ، وَسَامِي يُصْغِي إِلَيْهِ بِقَلْبٍ مَمْلُوءٍ بِالصَّدْمَةِ وَالانْدِهَاشِ.
قَالَ كَمَالٌ وَهُوَ يُطْرِقُ بِرَأْسِهِ: فِي البِدَايَةِ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ حَيَاتَنَا قَدِ انْتَهَتْ بِسَبَبِ خِيَانَةٍ مَزْعُومَةٍ... وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ أَنَّ دَاوُودَ كَانَ يَلْعَبُ فِي الظِّلَالِ طِوَالَ هَذِهِ السِّنِينَ. كَانَ يَزْرَعُ فِي قَلْبِي الشُّكُوكَ وَالأَكَاذِيبَ، عَنْكُمْ، عَنْ أُمِّكَ، عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.
– أَقْنَعَنِي أَنَّكَ لَسْتَ ابْنِي، وَأَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مُظْلِمًا فِي عِلَاقَتِنَا. وَعِنْدَمَا بَدَأَ يُشَكِّكُ فِي قُدْرَتِي عَلَى حِمَايَةِ عَائِلَتِي، قَرَّرْتُ أَنْ أَبْتَعِدَ عَنْكُمَا...!
كَانَ سَامِي مَذْهُولًا، لَا يَسْتَطِيعُ تَصْدِيقَ مَا يَسْمَعُهُ، فَقَالَ:– وَمَاذَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ؟! كَيْفَ أَصْبَحَ دَاوُودُ جُزْءًا مِنْ هَذِهِ القِصَّةِ؟
قَالَ كَمَالٌ وَهُوَ يَأْخُذُ نَفَسًا عَمِيقًا:– اسْتَمَرَّ دَاوُودُ فِي مُرَاقَبَتِنَا. وَكَانَ هُوَ مَنْ زَرَعَ الخَوْفَ فِي قَلْبِي. أَخْبَرَنِي بِأَشْيَاءِ لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أُصَدِّقَهَا، فَبَدَأْتُ أَفْقِدُ عَقْلِي شَيْئًا فَشَيْئًا...
– وَلَكِنْ... بَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنَ العَيْشِ فِي الظَّلَامِ، بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَّضِحُ.
– عِنْدَمَا رَأَيْتُ وَجْهَهُ مُجَدَّدًا، أَدْرَكْتُ أَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي كُلِّ شَيْءٍ... لَكِنَّهُ... لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِنَا، بَلْ كَانَ يَهْدِفُ إِلَى تَدْمِيرِ حَيَاتِنَا... فَقَطْ!
صَمَتَ كَمَالٌ لَحْظَةً، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ مَخْنُوقٍ:
– الحَقِيقَةُ بَدَأَتْ تَتَكشَّفُ... وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَثِيرُ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ.
وَبَيْنَمَا هُمَا غَارِقَانِ فِي الحَدِيثِ، دَخَلَتْ نَوَّارَةُ إِلَى الفِنَاءِ، وَوَجْهُهَا يَعْكِسُ قَلَقًا عَمِيقًا.
نَظَرَتْ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ سَأَلَتْ:– هَلْ كَشَفْتُمُ الحَقِيقَةَ؟ هَلْ أَصْبَحَتِ الأُمُورُ وَاضِحَةً الآن؟
كَانَتْ عَيْنَاهَا مَلِيئَتَيْنِ بِالأَلَمِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ أَيْضًا بَصِيصَ أَمَلٍ.
فَقَالَ كَمَالُ بِهُدُوءٍ:– نَعَمْ، يَا نَوَّارَةُ... لَقَدْ بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَّضِحُ الآن. لَكِنَّنَا بِحَاجَةٍ إِلَى مُوَاجَهَةِ هَذَا السِّرِّ مَعًا.
– نَحْنُ لَا نَمْلِكُ الكَثِيرَ مِنَ الوَقْتِ، وَإِذَا لَمْ نَتَّخِذْ خُطْوَةً حَاسِمَةً الآن، فَإِنَّنَا قَدْ نَفْقِدُ كُلَّ شَيْءٍ.
– سَامِي... أَنْتَ ابْنُنَا، وَعَلَيْكَ أَنْ تَقِفَ إِلَى جَانِبِنَا.
كَانَ سَامِي يَشْعُرُ بِتَوَرُّطٍ عَمِيقٍ فِي هَذِهِ القِصَّةِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَرِّرَ الآن... هَلْ سَيَتَّخِذُ جَانِبَ وَالِدِهِ، أَمْ يَقِفُ مَعَ وَالِدَتِهِ فِي مُوَاجَهَةِ هَذَا المَجْهُولِ...؟
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، جَاءَ صَوْتٌ غَرِيبٌ، غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ، مِنْ خَلْفِ الأَشْجَارِ المُحِيطَةِ بِالفِنَاءِ:
– أَنْتُم لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا بَعْدُ...!
كَانَ صَوْتًا مُشَوَّشًا، يَتَنَاغَمُ مَعَ الرِّيَاحِ، وَيَخْتَرِقُ أَعْمَاقَ اللَّيْلِ. نَظَرُوا فِي ذُهُولٍ، وَقُلُوبُهُم تَقْفِزُ فِي صُدُورِهِم.
فِي الزَّاوِيَةِ المُعْتِمَةِ، ظَهَرَ رَجُلٌ يَرْتَدِي عَبَاءَةً دَاكِنَةً، وَوَجْهُهُ مَغْطًّى جُزْئِيًّا، لَكِنَّ عَيْنَيْهِ كَانَتَا تَلْمَعَانِ بِوَهَجٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ. سَأَلَهُ كَمَالٌ بِصَوْتٍ مُتَقَطِّعٍ، وَهُوَ يَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ يُوَاجِهُ كَائِنًا مِنْ عَالَمٍ آخَرَ:
– مَنْ أَنْتَ؟! كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا؟!
خَطَا الرَّجُلُ خُطْوَةً نَاحِيَتَهُمْ، وَقَالَ بِهُدُوءٍ بَارِدٍ:
– أَنَا... الشَّخْصُ الَّذِي كُنْتُمْ تَبْحَثُونَ عَنْهُ... أَنَا دَاوُودُ.
تَجَمَّدَتِ الأَبْصَارُ فِي مَكَانِهَا، وَتَرَدَّدَ الاِسْمُ فِي أَرْجَاءِ الفِنَاءِ كَالصَّاعِقَةِ.
كَمَالٌ تَقَدَّمَ خُطْوَةً وَهُوَ يَهْتَفُ بِحِنْقٍ:
– دَاوُودْ؟! لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا كُلَّ هَذَا؟! لِمَاذَا دَمَّرْتَ حَيَاتَنَا؟!
فَهَمَّ كمال أَنْ يَنْقَضَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ تَوَقَّفَ عِنْدَمَا سَمِعَ صَوْتًا آخَرَ يَتَدَخَّلُ فِي المَشْهَدِ...
كَانَ صَوْتُ نَوَّارَةَ، تَتَكَلَّمُ بِهُدُوءٍ مُرٍّ، وَقَلْبُهَا يَخْفِقُ بِعُنْفٍ:
– لِأَنَّكَ كُنْتَ تَهْرُبُ مِنَ الحَقِيقَةِ، يَا كَمَالُ...!
نَظَرَ إِلَيْهَا مُتَفَاجِئًا: – نَوَّارَةُ؟! هَلْ كُنْتِ تَعْرِفِينَ كُلَّ شَيْءٍ؟! هَلْ كُنْتِ جُزْءًا مِنْ هَذِهِ المُؤَامَرَةِ؟!
سَامِي كَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فِي ذُهُولٍ، وَكُلَّمَا ظَنَّ أَنَّ الحَقِيقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ، انْقَلَبَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى رَأْسِهِ.
أَجَابَتْ نَوَّارَةُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ، وَنَظَرَتْ نَحْوَ الأَرْضِ:
– لَا، يَا كَمَالُ... لَمْ أَكُنْ جُزْءًا مِنْ المُؤَامَرَةِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّ شَيْئًا مَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّ هُنَاكَ شَرًّا يَتَخَفَّى بَيْنَنَا.
تَقَدَّمَتْ نَحْوَ دَاوُودَ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
– هَلْ تَعْلَمُ، يَا كَمَالُ، أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يُرَاهِنُ عَلَى أَنْ تَخْسَرَ كُلَّ شَيْءٍ؟ عَلَى أَنْ تَظُنَّ الأَسْوَأَ فِينَا؟!
دَاوُودُ نَظَرَ إِلَيْهَا بِصَمْتٍ، ثُمَّ قَالَ وَهُوَ يَرْفَعُ حَاجِبَيْهِ بِهِدُوءٍ:
– لَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ الآن... وَلَكِنَّكُمْ سَتَمْضُونَ فِي رِحْلَةٍ لَنْ تَكُونَ سَهْلَةً.
– وَكُلَّمَا اقْتَرَبْتُم مِنَ الكَشْفِ الكَامِلِ، زَادَتِ الصِّعَابُ. لَكِنْ عَلَيْكُمْ مُوَاجَهَةُ هَذِهِ الحَقِيقَةِ... أَنْفُسَكُمْ...!
كَانَ كَمَالٌ يُحَاوِلُ أَنْ يُسَيْطِرَ عَلَى أَعْصَابِهِ، لَكِنَّهُ شَعَرَ بِشُعُورٍ غَرِيبٍ يَتَسَلَّلُ إِلَى قَلْبِهِ.
قَالَ، وَوَجْهُهُ يَشُوبُهُ الشَّكُّ وَالأَلَمُ: – مَاذَا تُخْفِي، يَا دَاوُودُ؟ مَاذَا تُرِيدُ مِنَّا؟! أَلَمْ تَكْفِكَ السُّنُونُ الَّتِي خَرَّبْتَ فِيهَا حَيَاتَنَا؟!
رَدَّ دَاوُودُ بِبُرُودٍ: – أَنْتَ لَمْ تَخْسَرْ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدُ، يَا فَهْدُ... أَنْتَ فِي بَدَايَةِ الطَّرِيقِ... وَالحَقِيقَةُ الَّتِي تَهْرُبُ مِنْهَا، هِيَ نَفْسُهَا مَا سَتُعِيدُ تَرْتِيبَ حَيَاتِكَ.
صَمَتَ الجَمِيعُ، وَكَانَ الصَّمْتُ أَكْثَرَ قَسْوَةً مِنْ أَيِّ كَلِمَاتٍ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كَانَ الصَّمْتُ يَسُودُ الفِنَاءَ، وَالْجَمِيعُ يُحَاوِلُ اسْتِيعَابَ الصَّدْمَةِ الَّتِي أَلْمَّتْ بِهِمْ، حَتَّى تَكَلَّمَ "طدَاوُودُ بِصَوْتٍ هَادِئٍ وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِلَمَعَةٍ مَكْرٍ:
– إِنَّ المُسْؤُولَ عَنْ كُلِّ مَا جَرَى لَيْسَ غَرِيبًا، بَلْ هُوَ شَخْصٌ كَانَ يَعِيشُ مَعَكُمْ، يَأْكُلُ مَعَكُمْ، وَيَسْتَمِعُ لَكُمْ، وَتَأْمَنُونَ لَهُ... إِنَّهُ مَحْمُودٌ!
انْفَجَرَتِ الكَلِمَةُ كَالصَّاعِقَةِ فِي الْهَوَاءِ، وَتَجَمَّدَتِ النَّظَرَاتُ، وَانْشَقَّتِ القُلُوبُ ذُهُولًا. كَانَ "كَمَالٌ" يَحْمِلُ لِـ"مَحْمُودٍ" وُدًّا قَدِيمًا، وَيَثِقُ فِيهِ كَمَا يَثِقُ بِقَلْبِهِ.
تَقَدَّمَ "كَمَالٌ" خُطْوَةً، وَصَوْتُهُ مَخْنُوقٌ بِالأَلَمِ:– مَاذَا تَقُولُ؟ "مَحْمُودٌ"؟! لَا يُمْكِنُ! هُوَ أَخِي... صَدِيقِي...
هَزَّ "دَاوُودُ" رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، ثُمَّ قَالَ:
– كُنْتَ تَرَاهُ صَدِيقًا، وَهُوَ يَرَاكَ عَدُوًّا، كُنْتَ تَبْنِي، وَهُوَ يَهْدِمُ، كُنْتَ تَمْنَحُهُ ثِقَتَكَ، وَهُوَ يَزْرَعُ الشَّكَّ فِي قَلْبِكَ. "مَحْمُودٌ" كَانَ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ أَسْوَدَ نِيَّةٍ، وَيَتَرَبَّصُ لَكَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ.
تَقَدَّمَ "سَامِي" وَهُوَ يَرْتَعِشُ:– لَكِنْ... لِمَاذَا؟ مَاذَا نَفَعَلُ لَهُ لِيَفْعَلَ بِنَا كُلَّ هَذَا؟
أَجَابَ "دَاوُودُ":– كَانَ يَحْمِلُ ضَغِينَةً قَدِيمَةً، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ "كَمَالًا" سَرَقَ مِنهُ حُلْمَهُ، وَحِينَ رَآهُ ضَعِيفًا وَمُتَزَلْزِلًا، اسْتَغَلَّ الوَقْتَ وَضَرَبَ فِي أَضْعَفِ نُقَطِهِ.
كَانَ "كَمَالٌ" يُصَغِّرُ نَفْسَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَعَيْنَاهُ تَمْتَلِئَانِ بِالدُّمُوعِ:– كَيْفَ لَمْ أَرَ؟ كَيْفَ لَمْ أُدْرِكْ؟!
تَقَدَّمَتْ "نَوَّارَةُ" وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ هَادِئٍ:
– لِأَنَّكَ كُنْتَ تُحِبُّهُ، وَالثِّقَةُ حِينَ تَسْكُنُ القَلْبَ، تُعْمِي البَصَرَ.
سَادَ صَمْتٌ طَوِيلٌ، ثُمَّ نَطَقَ "سَامِي" وَفِي صَوْتِهِ قُوَّةٌ:
– وَمَاذَا بَعْدُ؟ هَلْ نَتْرُكُهُ يَفْلِتُ بِفِعْلَتِهِ؟!
قَالَ "كَمَالٌ" وَهُوَ يَمْسَحُ دُمُوعَهُ:– لَا، سَنُوَاجِهُهُ، وَسَنُخْبِرُ القَرْيَةَ كُلَّهَا، وَسَنَسْتَعِيدُ حَقَّنَا، وَلَا نَدَعُ الظُّلْمَ يَنْتَصِرُ.
نَظَرُوا إِلَى بَعْضِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِيهِمْ يُدْرِكُ أَنَّهُمْ فِي بَدَايَةِ مَعْرَكَةٍ، لَيْسَتْ كَكُلِّ مَعَارِكِ الحَيَاةِ، بَلْ مَعْرَكَةُ الحَقِّ وَالْكَرَامَةِ وَالْحَقِيقَةِ.
بَعْدَ أَنْ انْكَشَفَتْ حَقِيقَةُ مَحْمُود، تَجَمَّعَ كَمَالٌ مَعَ نَوَّارَةَ وَابْنِهِ سَامِي وَدَاوُودَ، وَقَرَّرُوا جَمِيعًا أَنْ يُوَاجِهُوا مَحْمُودًا بِكُلِّ شَجَاعَةٍ وَصِرَامَةٍ.
تَوَجَّهُوا إِلَى بَيْتِ مَحْمُودَ، وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ تَخْفِقُ بِخَفَقَانِ مُمْتَلِئٍ بِالْقَلَقِ وَالْتَّوَتُّرِ، وَعَقْلُهُمْ يَحْمِلُ أَثْقَالَ السَّنَوَاتِ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ.
عِنْدَمَا فَتَحَ مَحْمُودُ الْبَابَ، لَمْ يُظْهِرْ أَيَّ مَشَاعِرِ نَدَمٍ أَوْ خَجَلٍ، بَلْ كَانَ وَجْهُهُ بَارِدًا وَعَيْنَاهُ تَتَلَأْلَأُانِ بِغَضَبٍ وَكِرَاهِيَةٍ.
تَكَلَّمَ كَمَالٌ بِصَوْتٍ حَادٍ، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ مَا حَدَثَ، قَائِلًا:
"كُنْتَ أَخِي وَصَدِيقِي الْوَفِيُّ، كَيْفَ تَحَوَّلْتَ إِلَى أَشْخَاصٍ يُمْزِقُونَ أَهْلَهُمْ وَيَغْمُرُونَ حَيَاتَهُمْ بِالظُّلْمِ وَالأَكَاذِيبِ؟"
أَجَابَهُ مَحْمُودُ بِلُغَةٍ مَلِيئَةٍ بِالْحِقْدِ:
"كُنْتُ أَكْرَهُكَ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، لِأَنَّكَ كُنْتَ تَمْثُلُ أَمَامِي كَانْعِكَاسٍ لِضَعْفِي وَنَقَائِصِي. كُنْتُ أَحْسَدُكَ عَلَى كُلِّ مَا لَدَيْكَ مِنْ سَعَادَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ. لِذَلِكَ حَرَّضْتُكَ عَلَى طَرْدِ نَوَّارَةَ، وَلَفَّقْتُ الرَّسَائِلَ الْكَاذِبَةَ، وَزَرَعْتُ الشَّكَّ فِي قَلْبِكَ، لأُحَوِّلَ حَيَاتَكَ إِلَى جَحِيمٍ لا يُطَاق.
تَمَكَّنَ كَمَالٌ وَالآخَرُونَ مِنْ اسْتِجْمَاعِ أَنْفَاسِهِمْ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُرَّةِ، وَرَغْمَ الْأَلَمِ، حَاوَلُوا فَهْمَ دَوَافِعِ مَحْمُودَ الْمُظْلِمَةِ.
فَقَالَ مَحْمُودُ بِلُطْفٍ غَامِضٍ وَنَدَمٍ مُتَأَخِّرٍ:
لَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ طَرِيقَ الانتِقَامِ سَيُدْمِّرُ حَيَاتِي أَيْضًا. نَدِمْتُ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ، لَكِنَّ أَذَى كَلِمَاتِي وَأَفْعَالِي لَمْ تَسْمَحْ لِي بِالإِنْتِقَادِ، وَقَدْ أَخْطَأْتُ طَوِيلًا.
نَوَّارَةُ، وَبَيْنَ الدُّمُوعِ وَالأَلَمِ، صَرَخَتْ:
كَيْفَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُفْسِدَ عِيشَةَ الْمُحِبِّينَ وَيُدْمِّرَ أَسَرَةً بِحُجَّةِ حَقِيرَةٍ كَذِبٍ؟ كَيْفَ لَكَ أَنْ تُفْسِدَ عَالَمَنَا وَتَسْقِطَنَا فِي وَحْلِ الْخِيَانَةِ؟
وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ، سَامِي، الْمُتَأَثِّرُ وَالْمُتَحَيِّرُ، تَسَاءَلَ:
مَا ذَنْبِي أَنَا الطِّفْلُ الَّذِي طُرِدَ مِنْ بَيْتِهِ وَعَاشَ فِي الْغُرْبَةِ وَالْحُرْمَةِ؟
مَحْمُودُ لَمْ يَجِدْ رَدًّا، وَكَانَ صَمْتُهُ أَكْثَرَ قَوَّةً مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ.
كَمَالٌ، بِصَوْتٍ مَلِيءٍ بِالْحَزَنِ وَالْإِصْرَارِ، قَالَ:
سَأَصْنَعُ الْعَدَالَةَ، سَأُعِيدُ لَنَوَّارَةَ وَلِسَامِي كَرَامَتَهُمَا. لَنْ أَدَعَ الْخِيَانَةَ تَسْتَمِرُّ فِي تَفْسِيدِ حَيَاتِنَا.
وَبِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، بَدَأَتْ فَصْلَةٌ جَدِيدَةٌ فِي حَيَاةِ عَائِلَةِ كَمَالٍ، فَصْلَةٌ مِنَ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ وَالْأَمَلِ.
بَعْدَ أَنْ انْكَشَفَتْ حَقِيقَةُ مَحْمُود، تَجَمَّعَ كَمَالٌ مَعَ نَوَّارَةَ وَابْنِهِ سَامِي وَدَاوُودَ، وَقَرَّرُوا جَمِيعًا أَنْ يُوَاجِهُوا مَحْمُودًا بِكُلِّ شَجَاعَةٍ وَصِرَامَةٍ.
تَوَجَّهُوا إِلَى بَيْتِ مَحْمُودَ، وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ تَخْفِقُ بِخَفَقَانٍ مُمْتَلِئٍ بِالْقَلَقِ وَالتَّوَتُّرِ، وَعَقْلُهُمْ يَحْمِلُ أَثْقَالَ السَّنَوَاتِ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ.
وَلَمَّا فَتَحَ مَحْمُودُ الْبَابَ، لَمْ يُظْهِرْ أَيَّ مَشَاعِرِ نَدَمٍ أَوْ خَجَلٍ، بَلْ كَانَ وَجْهُهُ بَارِدًا، وَعَيْنَاهُ تَتَلَأْلَأَانِ بِغَضَبٍ وَكِرَاهِيَةٍ.
تَقَدَّمَ كَمَالٌ بِصَوْتٍ حَادٍ وَرَصِينٍ، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ مَا حَدَثَ، قَائِلًا:
كُنْتَ أَخِي وَصَدِيقِي الْوَفِيُّ، كَيْفَ تَحَوَّلْتَ إِلَى شَخْصٍ يُمْزِقُ أَهْلَهُ وَيَغْمُرُ حَيَاتَهُمْ بِالظُّلْمِ وَالأَكَاذِيبِ؟
أَجَابَهُ مَحْمُودُ بِلُغَةٍ مَلِيئَةٍ بِالْحِقْدِ وَالْكَرَاهِيَةِ:
"كُنْتُ أَكْرَهُكَ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، لِأَنَّكَ كُنْتَ تَمْثُلُ أَمَامِي كَانْعِكَاسٍ لِضَعْفِي وَنَقَائِصِي. كُنْتُ أَحْسُدُكَ عَلَى كُلِّ مَا لَدَيْكَ مِنْ سَعَادَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ. لِذَلِكَ حَرَّضْتُكَ عَلَى طَرْدِ نَوَّارَةَ، وَلَفَّقْتُ الرَّسَائِلَ الْكَاذِبَةَ، وَزَرَعْتُ الشَّكَّ فِي قَلْبِكَ، لِأُحَوِّلَ حَيَاتَكَ إِلَى جَحِيمٍ لا يُطَاق."
وَقَفَ كَمَالٌ وَالآخَرُونَ بِوَقَارٍ، وَحَاوَلُوا فَهْمَ دَوَافِعِ مَحْمُودَ الْمُظْلِمَةِ، وَرَغْمَ الْأَلَمِ الَّذِي غَلَبَهُمْ، كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ تَرْقُبُ كَلِمَاتِهِ بِحَذَرٍ.
فَقَالَ مَحْمُودُ بِلُطْفٍ غَامِضٍ وَنَدَمٍ مُتَأَخِّرٍ:
لَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ طَرِيقَ الانْتِقَامِ سَيُدْمِّرُ حَيَاتِي أَيْضًا. نَدِمْتُ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ، وَلَكِنَّ أَذَى كَلِمَاتِي وَأَفْعَالِي لَمْ تَسْمَحْ لِي بِالإِنْتِقَادِ. قَدْ أَخْطَأْتُ طَوِيلًا، وَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نُحَاسِبَ نَفْسَنَا."
نَوَّارَةُ، وَبَيْنَ دُمُوعِهَا وَحُزْنِهَا الْعَمِيقِ، صَرَخَتْ:
"كَيْفَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُفْسِدَ عِيشَةَ الْمُحِبِّينَ وَيُدَمِّرَ أُسْرَةً بِحُجَّةِ كَذِبٍ حَقِيرٍ؟ كَيْفَ لَكَ أَنْ تُفْسِدَ عَالَمَنَا وَتَسْقِطَنَا فِي وَحْلِ الْخِيَانَةِ؟"
فِي نَفْسِ اللَّحْظَةِ، تَسَاءَلَ سَامِي، الطِّفْلُ الْمُتَأَثِّرُ وَالْمُتَحَيِّرُ: مَا ذَنْبِي أَنَا الَّذِي طُرِدْتُ مِنْ بَيْتِي وَعِشْتُ فِي الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ؟
وَكَانَ صَمْتُ مَحْمُودَ أَكْثَرَ قُوَّةً مِنْ أَيِّ كَلِمَةٍ.
كَمَالٌ، بِصَوْتٍ مَلِيءٍ بِالْحَزَنِ وَالإِصْرَارِ، قَالَ:
لَن أَدَعَ الْخِيَانَةَ تَسْتَمِرُّ فِي تَفْسِيدِ حَيَاتِنَا. سَأَصْنَعُ الْعَدَالَةَ وَأُعِيدُ لِنَوَّارَةَ وَلِسَامِي كَرَامَتَهُمَا. هَذِهِ بَدَايَةُ فَصْلٍ جَدِيدٍ لَنَا، فَصْلٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ وَالْأَمَلِ.
وَبِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، انْطَلَقَتْ رِحْلَةُ الْعَدَالَةِ، وَبَدَأَتْ عَائِلَةُ كَمَالٍ تُرَتِّبُ أَمُورَهَا مِنْ جَدِيدٍ، تَتَخَلَّى عَنْ ظِلِّ الْمَاضِي وَتَسْعَى إِلَى نُورِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَهكَذَا تَنْتَهِي قِصَّتُنَا الَّتِي بَدَأَتْ بِدَمْعَةٍ، وَسَارَتْ عَلَى دَرْبِ الظُّلْمِ، ثُمَّ تَفَتَّحَتْ أَخِيرًا بِنُورِ الْحَقِّ وَالاعْتِذَارِ. تَقُولُ لِكُلِّ مَن يَسْمَعُهَا أَنَّ الظُّلْمَ لا يَدُومُ، وَأَنَّ السِّرَّ مَهْمَا طَالَتْ خُيُوطُهُ، لَابُدَّ أَنْ يُكْشَفَ يَوْمًا.
وَأَنَّ الْقَلْبَ الطَّيِّبَ الَّذِي يَصْبِرُ وَيَعْفُو هُوَ الْمُنْتَصِرُ فِي النِّهَايةِ.
لَقَدْ كَانَتْ حِكَايَةُ كَمَالٍ وَنَوَّارَةَ وَسَامِي أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ قِصَّةٍ، كَانَتْ مِرْآةً لِحَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْبُيُوتِ، الَّتِي تَهْتِزُّ حِينَ يَسَيْطِرُ الشَّكُّ، وَتَنْهَارُ حِينَ يُسْتَمَعُ لِلْوِشَايَةِ، وَتَنْهَضُ مِنْ جَدِيدٍ حِينَ يَتَكَلَّمُ الصِّدْقُ وَيَمُدُّ الْحَنَانُ يَدَهُ.
الْمَغْزَى مِنَ الْقِصَّةِ:
لا تُصَدِّقْ كُلَّ مَا يُقَالُ، وَلَا تَطْرُدْ مَنْ تُحِبُّ لِمُجَرَّدِ ظَنٍّ. فَرُبَّمَا يَكُونُ الظُّلْمُ الَّذِي تَظُنُّهُ عَدْلًا هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي سَيَقْسِمُ ظَهْرَكَ بَعْدَ سَنَوَاتٍ.
شُكْرًا لِكُلِّ مَنْ تَابَعَ قِصَّتَنَا حَتَّى النِّهَايةِ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ رِسَالَةً صَادِقَةً تَمُسُّ قُلُوبَكُمْ، وَتُذَكِّرُنَا جَمِيعًا أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالْحَقِيقَةِ، وَنُحْسِنَ الظَّنَّ، وَنُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ نُخْطِئَ بِحَقِّ مَن نُحِبُّ.
دُمْتُمْ فِي رِعَايَةِ اللَّهِ.
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.