في قديم الزمان، حيث كانت الحكايات تُروى على ضوء القناديل، وتُحفظ العِبر في صدور الحكماء... وُجدت قصة تُشبه الأساطير، لكنها مملوءة بالعِبر والدروس الخالدة.
قصة رجل فقير اختار الرحيل هربًا من الذل والفقر، فقادته الأقدار إلى قصر مهجور يسكنه السر والغموض، وهناك تغيّرت حياته تمامًا...
لكن، حينما تسلّل الطمع إلى قلب أخيه الغني، وعاد القصر ليفتح أبوابه من جديد، كان لكل طريق نهاية... ولكل قلبٍ جزاؤه.
في هذه القصة التراثية المؤثرة، سنغوص معًا في عالمٍ يمزج بين الحكمة والدهاء، بين الطمع والرضا، وبين قلوبٍ أنهكها الفقر، وقلوبٍ أنهكها الجشع.
تابع معنا القصة كاملة، وتأمّل ما تُخبئه من دروس قد تغيّر طريقة نظرك للحياة...
مقدمة القصة – بين الغِنى والفقر
في زمنٍ مضى، حيث كانت البيوت من طين، والقلوب عامرة بالإيمان، عاش أخوان في قرية صغيرة، فرقَ بينهما القدر كما فرق بين الأرض والسماء.
كان أحدهما غنيًّا، يمتلك الأرض والماشية والمال، يعيش في داره الكبيرة مع زوجته المتكبرة التي لا ترى في الناس إلا دونها.
أما الآخر، فكان فقيرًا معدمًا، بالكاد يجد قوت يومه، لكنه كان يملك قلبًا راضيًا وزوجةً جميلةً صابرةً تُعينه على شظف العيش.
ورغم الفقر الشديد، لم تشتكِ الزوجة الطيّبة يومًا، بل خرجت للعمل في بيت زوجة أخيه، تجمع القمح المتساقط على الأرض، وتتحمّل الذل والمهانة.
فقد كانت زوجة الغني تُعاملها بازدراء وحقد، لا لذنبٍ اقترفته، بل لحُسنها الذي كانت تغار منه، ولقلبها النقيّ الذي لم يُغيّره الفقر.
وفي مشهدٍ يتكرر كل مساء، كانت المرأة المسكينة تعود إلى بيتها وفي يدها فتات القمح المليء بالتراب، تضعه على الطاولة، وتقول لزوجها:
"هذا ما جناه قلبي من يومي... فلنصبر قليلاً... لعلّ الله يفتح لنا بابًا من أبواب الرحمة".
هكذا تبدأ هذه الحكاية التراثية المؤثرة، التي ترسم ملامح التفاوت الطبقي، وتكشف كيف يمكن للقلب الطيّب أن يُضيء ظلام الفقر، وكيف للطمع أن يُطفئ نور المال.
إنها قصة قصيرة عن القناعة والصبر، تُمهّد لما هو آتٍ من مفاجآت ستقلب حياة الجميع...
الرحيل نحو المجهول
في ليلةٍ باردةٍ، وبينما كان الأطفال نائمين على الأرض دون غطاء، جلس الأب الفقير إلى جانب زوجته وقال بصوتٍ مثقلٍ بالحزن:
"لقد بلغنا الحضيض يا امرأة... لا عملٌ يجلب الكفاف، ولا أخٌ يرحم... أخي يذلّني في كل مناسبة، ويُذكّرني أنني لولاه لكنت ميّتًا جوعًا...
لقد ضاقت بي الدنيا، وسأرحل... أبحث عن رزقٍ في أرض الله الواسعة، عسى أن يكتب لنا الفرج في مكانٍ لا يعرفني فيه أحد".
حزنت الزوجة، لكنها لم تمنعه، بل أعدّت له زادًا بسيطًا، وربطته في قطعة قماش، وقبّلت يده ودعت له بالسلامة.
وهكذا خرج الرجل مع أول خيوط الفجر، لا يحمل في قلبه إلا الحزن، وفي يده سوى قليل من الطعام.
سار أيّامًا بغير وجهةٍ، حتى وصل إلى غابةٍ كثيفةٍ مظلمةٍ، لا تدخلها الشمس، ولا يُسمع فيها غير نعيق البوم وصرير الأشجار اليابسة.
ورغم خوفه، توغّل فيها لعلّه يجد مخرجًا أو قريةً يأوي إليها، لكنه وجد نفسه عالقًا في متاهةٍ خضراء، كلّما سار، ازدادت الطرق تشعّبًا وغموضًا.
وبينما هو على وشك الانهيار من التعب والجوع، إذ به يرى فتاةً ترتدي السواد، تمرّ أمامه بسرعةٍ خاطفةٍ بين الأشجار!
نادى عليها، لكنها لم تلتفت، فركض خلفها ظنًّا أنها تعرف طريقًا للخروج...
لكنّ الفتاة اختفت، تاركةً خلفها أثرًا يقوده نحو قصرٍ غريبٍ في قلب الغابة، قصرٌ بدا كأنّه مهجور منذ قرون، يلفّه السكون، وتُحيطه الأشجار من كل جانب.
وقف الرجل أمام الباب الخشبي الضخم، يسمع داخله حفيفًا غامضًا، وصريرًا خافتًا...
ثم قال في نفسه: "ما دمت لا أملك شيئًا، فلن أخسر شيئًا... فليكن ما يكون!"
القصر الغامض ولقاء ياقوتة
بخطى مترددة، دفع الرجل باب القصر الخشبي، فصدر عنه صوتٌ عميق كأنّه أنين الزمن.
دلف إلى الداخل، وإذا بغرفةٍ واسعة تتراءى أمامه، مليئةٍ بالتحف واللوحات الذهبية، تتوسّطها مدفأة كبيرة تعلوها قِدْرٌ يغلي، يتصاعد منه بخارٌ برائحة اللحم الطازج.
نسي خوفه للحظة من شدة الجوع، واقترب من القدر محاولًا التحقق، لكن فجأة... سمع صوتًا خلفه يقول:
"يبدو أن الجوع أنساك أن تُعجب بكل هذه التحف!"
ارتعد قلبه، فاستدار ببطء، فإذا بـالفتاة الغريبة التي رآها في الغابة تقف خلفه، ترتدي السواد، وتبتسم ابتسامةً هادئة.
قالت له بصوتٍ رخيم:
"لا تخف، اسمي ياقوتة، وأنا لستُ كما تظن... تعال، اجلس، وكُل معي، وأخبرني ما الذي أتى بك إلى هذا المكان الذي لا يزوره أحد؟"
رغم مظهرها الغريب وعيونها اللامعة في الظلام، شعر الرجل براحةٍ عجيبة، فجلس إلى المائدة وبدأ يأكل، بينما تحكي له عن القصر، وتقول:
"هذا القصر ملكٌ لعائلتنا منذ مئات السنين، أنا ووالدتي نحرسه، وكل من يأتينا بنية السرقة... لا يخرج أبدًا."
نظر إليها الرجل بخوف، لكنها ابتسمت من جديد وقالت:
"أنت لست مثلهم... قل لي قصتك."
فبدأ يحكي عن حياته: عن أخيه الغني، وعن زوجته الطيّبة، وعن العمل المُذل، وعن القهر والجوع...
وعندما تذكّر أولاده، اغرورقت عيناه بالدموع، وتوقّف عن الأكل وقال:
"كيف آكل وهم الآن جائعون؟!"
سكتت ياقوتة للحظة، ثم مسحت دموعها وقالت بهدوء:
"لقد تأثّرتُ كثيرًا بحكايتك... اسمعني جيدًا:
خلف هذا الرواق الطويل، هناك أربع غرف، وعندما تصل إلى الغرفة الرابعة، ستجد أكوامًا من الفضة.
خذ منها ما تستطيع حمله فقط... لكن إياك، أُحذّرك، إياك أن تفتح أي غرفةٍ أخرى ...
ولا تخبر أحدًا بما رأيت، ولا تعد إلى هنا مجددًا... فإن فعلت، فلن أستطيع حمايتك من أمي."
هكذا أُغلق الستار على هذا اللقاء الغريب الذي لا يُشبه سوى ما نقرأه في القصص التراثية الغامضة...
فهل سيلتزم الرجل الفقير بوصيّة ياقوتة؟
أم سيقع في فخّ الطمع كما وقع غيره من قبله؟
تابع معنا القصة إلى النهاية...
الكنز الحلال والقناعة النادرة
بهدوءٍ ممزوج بالرهبة، تقدّم الرجل الفقير نحو الرواق الطويل داخل القصر، وقد عَلِقَ صوتُ ياقوتة في أذنه كتحذيرٍ لا يُنسى:
"إيّاك أن تفتح غير الغرفة الرابعة..."
ومرّ بجوار الأبواب الثلاثة الأولى، وقد لَمَعَت مقابضها النحاسية تحت ضوء المشاعل، وتزيّنت بزخارف تُغري كلّ من يراها بفتحها...
لكنه كان مؤمنًا بكلمتها، وخائفًا من كسر وعده... فواصل طريقه حتى وقف أمام الباب الرابع.
فتح الباب ببطء، فانبهر ببريق الفضة يملأ الغرفة، أكياسٌ وأكوامٌ لامعة، كأنها كنزٌ نزل من السماء.
أخذ كيسًا فارغًا، وملأه حتى المنتصف فقط، وقال في نفسه:
"يكفيني هذا، فما خرجتُ أبحث عن الغنى، بل عن قوتٍ أُشبع به أولادي..."
ثم عاد أدراجه، وهو يحمل الكيس على ظهره، وقلبه يخفق من شدة الموقف.
وعندما خرج، وجد ياقوتة في انتظاره، فنظرت إلى الكيس، ثم ابتسمت قائلةً:
"لأنك لم تكن طمّاعًا، فكل ما حملته حلالٌ عليك...
ولو أنك ملأت الكيس كلّه، لما خرجت حيًّا من هذا القصر، ولكانت أمي قد لحقتك وقتلتك!"
أطرق الرجل رأسه شكرًا، فتابعت ياقوتة تقول:
"إذا أحسنت التصرّف فيما حملت، فلن تعرف الفقر بعد اليوم.
الآن، امشِ في هذا الاتجاه، وستجد طريقًا يُخرجك من الغابة...
أما أنا، فلا بُدّ أن أعود قبل عودة والدتي."
ولم يكن يعلم أن ياقوتة ليست فتاةً عادية، بل جنيّة طيّبة تسكن القصر منذ مئات السنين، ولا تؤذي من كان قلبه نقيًّا.
خرج الرجل من الغابة، وقلبه لا يُصدّق ما جرى له...
وعندما طلع الصباح، دخل السوق، فاشترى حمارًا، وبعض الأغنام، وطعامًا يكفي عائلته لأيامٍ كثيرة.
عاد إلى بيته، فركض إليه أطفاله وهم يصرخون فرحين:
"عاد أبي! عاد أبي!"
فاحتضنهم وهو يبكي، وقال لهم:
"لن تجوعوا بعد اليوم يا أحبّتي... لقد رزقنا الله من حيث لا نحتسب."
وفي تلك الليلة، جلس الجميع حول المائدة يأكلون حتى شبعوا، لأول مرة منذ زمن بعيد.
هكذا بدأت حياة جديدة للرجل الفقير، تحوّلت فيها الدار الصغيرة إلى بيتٍ عامرٍ بالبركة،
وبدأ يبيع الحليب والجبن، ويزرع الأرض، ويوسّع رزقه شيئًا فشيئًا...
بلا طمع، ولا أذى، ولا خيانة.
إنها قصة حقيقية من التراث العربي تُجسّد معنى القناعة، وترسّخ درسًا خالدًا:
الخير لا يُولد من الطمع، بل من الرضا والثقة برزق الله.
ممتاز، إليك:
الطمعُ يُهلك صاحبه
مع مرور الأيام، ذاع صيت الرجل الفقير في القرية، وتعجّب الناس من تحوّله المفاجئ.
صار يمتلك دكّانًا صغيرًا، وأغنامًا ترعى، وزوجته الطيّبة تلبس الجديد، والأطفال يضحكون ويلعبون دون جوع.
لكنّ أكثر من أثارته هذه الأخبار، كان أخوه الغني...
فقد نظر إليه بازدراء وقال في نفسه:
"من أين له هذا؟! لقد كان شحّاذًا، لا يملك شيئًا... كيف تغيّر حاله فجأة؟"
بدأت الشكوك تُسيطر عليه، حتى جاء يومٌ دُعي فيه إلى بيت أخيه لتناول الطعام.
وبينما يجلسون حول المائدة، لاحظ أن الأكل وفير، والبيت أنيق، والأطفال سعداء.
فقال له متصنّعًا اللطف:
"أخبرني يا أخي، كيف تبدّلت أحوالك؟ ألديك تجارة؟ أم كنز دفين؟"
تردّد الفقير قليلًا، ثم قال بتواضع:
"لقد رزقني الله من حيث لا أحتسب، وكانت القناعة سببي للنجاة... لا تسأل أكثر، فما نالني خيرٌ إلا بعد أن صبرت."
لكنّ الغني لم يقتنع، وألحّ حتى عرف من بعض الأولاد أن أباهم "دخل قصرًا في الغابة وخرج بالفضة".
وهنا، تملّكه الطمع، فذهب من فوره إلى الغابة، وسار بين الأشجار حتى وصل إلى القصر الغامض.
دخل دون رهبة، ولم ينتظر دعوة، بل راح يفتش المكان بحثًا عن "الغرف الأربع" التي سمع عنها.
ثم رأى فتاةً ترتدي السواد تقف عند المدخل، فقال لها بصوتٍ متعالٍ:
"أريد الوصول إلى الكنز... دُلّيني بسرعة، فلستُ كأخي البائس."
نظرت إليه ياقوتة ببرود، وقالت بهدوء:
"إن كنت تطلب المال، فامضِ إلى الغرفة الرابعة، وخذ ما تستطيع حمله...
لكن لا تفتح سواها، فإنك إن فعلت، ستندم."
ضحك باستهزاء وقال:"أنا لا أؤمن بالخرافات، سأفتح كل الغرف، وأخذ كل ما فيها."
دخل إلى الغرفة الرابعة، فانبهر بالفضة كما فعل أخوه،
لكنه لم يكتفِ، بل فتح الغرفة الثالثة، فوجد ذهبًا، فملأ أكياسه.
ثم فتح الغرفة الثانية، فوجد ألماسًا وأحجارًا كريمة، فحشر منها ما استطاع.
ولم يقف عند هذا الحد... بل مدّ يده إلى مقبض الغرفة الأولى ...
وما إن فَتَحَها، حتى سُمِعَ صريرٌ عنيف، وخرجت منها ريحٌ سوداء،
وانطفأت المشاعل، وانغلقت الأبواب، ودوّى صوت ياقوتة وهي تصرخ:
"لقد كسرت العهد! لن تخرج من هنا حيًّا!"
وقبل أن يدرك ما يجري، شعر بشيءٍ ثقيل يُمسك به، ثم سُحِب إلى ظلامٍ لا قرار له...
واختفى، كأنّه لم يكن.
عِبرة القصة – حين تُنقذ القناعة وتُهلك الشهوة
مرّت الشهور، ولم يظهر للأخ الغني أثر...
تحدّث الناس، وتضاربت الأقاويل، فمنهم من قال إنه هرب بمالٍ مسروق، ومنهم من قال إنه مات في الغابة،
لكن أخاه الفقير لم يتفوّه بكلمة، بل اكتفى بالحزن، وقال: من لم يرضَ بالقليل، ضاع في طلب الكثير...
استمرّ الرجل في عمله، ولم يُحدّث أحدًا بقصّته مجددًا.
علّم أبناءه الصبر والقناعة، وكان كلّما جاءه محتاج، أعطاه ممّا رزقه الله،
وكان يقول دومًا:"الكنز الحقيقيّ، ليس في الذهب ولا الفضة، بل في القلب الراضي، والنفس الزاهدة."
وهكذا ظلّت قصّته تُروى في القرية جيلًا بعد جيل، كواحدةٍ من أجمل القصص التربوية من التراث العربي،
تحمل في طيّاتها درسًا خالدًا: أنّ الطمع لا يزيد الإنسان غنًى، بل يُعرّيه من البركة،
وأنّ الرزق بيد الله، لا يأتي بلهفة القلب، بل بقوة الإيمان، وصدق النيّة.
خلاصة المقال:
هذه القصة ليست مجرّد حكاية مسلية، بل مرآة لحياتنا المعاصرة.
في زمنٍ أصبح فيه الناس يلهثون خلف المال، تأتي هذه الحكاية العميقة لتُذكّرنا أن الرضا بما نملك، قد يكون هو الطريق الحقيقي للسعادة.
✍️ فهل نحن اليوم مثل الرجل الفقير الذي خرج يبحث عن رزقٍ بالحلال، فوجد بركةً في القناعة؟
أم مثل أخيه الذي أغواه الطمع، فأضاع كلّ شيء؟
اختر طريقك...
فكلٌّ منا يسكنه رجلٌ فقير... وغنيٌّ طمّاع.